[تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)]
ثم جاء وعد رب العالمين سبحانه وتعالى فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٥]، فوعد الله سبحانه النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذا الكتاب العظيم ووعد المؤمنين فقال: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، وقيَّد وعده بالإيمان والعمل الصالح، فوعد الله عز وجل بالتمكين في الأرض للمؤمنين، وهذا وعد لا بد أن يكون ولا بد أن يحدث، فالله عز وجل لا يخلف الميعاد.
فإذا لم يحدث هذا فالمسلمون لم يأتوا بالشرط الذي ينبني عليه الجواب، والحكم الذي قاله الله سبحانه ووعده وعد مشروط فيه أن تكونوا مؤمنين، وأن تعملوا الصالحات.
فإذا كانوا مؤمنين وعملوا الصالحات -والصالحات كل ما أمر الله عز وجل به في دينه-: فأقاموا أمر دينهم، وجاهدوا عدوهم، وكانوا صالحين في أنفسهم مصلحين لغيرهم، هادين مهديين، فالله عز جل ينجز ما وعد.
قال تعالى: ((لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم)) الفعل المضارع إذا كان قبله لام التوكيد وآخره نون التوكيد الثقيلة فتكون هذه الجملة واقعة في جواب قسم محذوف، فالتقدير هنا: والله ليستخلفنهم، فالله سبحانه يقسم أنه لابد أن ينصر هؤلاء، وليجعلنهم خلفاء في الأرض.
قال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٥]، فقد استخلف الذين من قبلهم من المؤمنين في الأمم التي كانت قبل أمتنا، والتي جعل الله عز جل لها نصراً على عدوها، فقد كانت أمة موسى عليه الصلاة والسلام مستضعفة في الأرض، فوعدهم الله عز وجل أن يستخلفهم ويمكن لهم، فنصرهم على فرعون وجنوده، ومكن لهم وأهلك فرعون ومن معه.
لهذا وعد الله عز وجل المؤمنين أنهم إذا نصروا الله فإن الله ينصرهم، فقال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:٧]، ووعدهم الله عز وجل إذا أعدوا القوة واستعدوا لأعدائهم وكانوا مؤمنين صالحين أن ينصرهم وأن يستخلفهم.
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:٥]، وتمكين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في الأرض إنما يكون بهذا القيد وبهذا الشرط وهو: طاعة رب العالمين، فكما جعل الذين من قبلنا يتمكنون بإيمانهم، وجعلهم أئمة بطاعتهم لرب العالمين، فكذلك أرانا سبحانه وتعالى كيف جعلهم أذلة بمعصيتهم له، فبنو إسرائيل الذين أطاعوا الله مع موسى نصرهم الله، ثم عبدوا العجل فإذا بالله عز وجل يأمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فقتلوا في غداة واحدة سبعين ألفاً منهم، فالمؤمن ينصره الله، والذي يخالف يخذله الله.
فلما أطاعوا ربهم سبحانه نجاهم وخرجوا منصورين، ولما انحرفوا عن دين رب العالمين إذا بربنا سبحانه يجعلهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، فلما رجعوا إلى الطاعة رجع الله عز وجل إليهم بالفضل، فلما عصوا ربهم رجع عليهم بالعقوبة قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:٧٨].
فالمؤمنون الذين يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم، ويتمسكون بدينهم، ويعملون الصالحات وكان عملهم خالصاً لله، وعدهم الله أن ينصرهم، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم} [النور:٥٥] يعني: يجعلهم خلفاء، فيزيل الأمم ويجعل هؤلاء الذين يتمكنون يخلفونهم في الأرض، فيزيل حكاماً ويزيل ملوكاً ويذهب طغاة ويجعل هؤلاء هم الخلفاء في الأرض.
فأول من مكن الله عز وجل لهم من هذه الأمة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أطاعوا الله عز وجل، وأطاعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا في سبيل الله، ففتحت لهم الفتوح، ومكن لهم ربنا سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً)، فكأن ذلك هو التطبيق الحرفي لهذه الآية في هؤلاء، وليس فيهم فقط ولكن في كل من يفعل كفعلهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
فالخلافة كانت ثلاثين سنة، يروي هذا الحديث أبو داود والترمذي عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفسره سفينة ويقول لمن يحدثه: أمسك عليّ خلافة أبي بكر سنتان، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان ثنتا عشرة سنة، وخلافة علي ست سنين، فيكون المجموع ثلاثين سنة سنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه من علامة نبوته ومعجزاته صلوات الله وسلامه عليه، فقد أخبر أنه ستكون خلافة على منهاج النبوة ثلاثين سنة ثم يكون ملكاً عضوضاً.
فلما تولى معاوية رضي الله عنه تحولت الخلافة إلى ملك، ولكن كان يحكم بشرع رب العالمين.
فالذين استخلفهم المؤمنون في هذا العصر العظيم في الثلاثين سنة كان فيها الحق والعدل والاتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها النصر والتمكين، ثم جاء الخلفاء من بعدهم فأقاموا دين رب العالمين وتمسكوا، وإن كان من بعدهم أقل ممن كانوا من قبل، ولكن كانوا مستمسكين بدين الله، ففتح الله لهم بلاد الأرض مشارقها ومغاربها.
ثم ترك المسلمون دين رب العالمين سبحانه فإذا بالله يذلهم وإذا بهم يتقهقرون ويتراجعون، وتتمكن منهم الأمم؛ لأنهم خالفوا ما قال الله سبحانه وتعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٥] يعني: بني إسرائيل ومن قبلهم ممن كانوا مؤمنين.
وهذه فيها قراءتان {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٥]، وهي قراءة الجمهور.
وقراءة شعبة عن عاصم: {كَمَا اسْتُخْلفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
وقال تعالى: ((وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)) هذا وعد من الله سبحانه بتمكين دين الإسلام الذي قال فيه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، وهذا أيضاً جواب للقسم والتقدير: والله ليمكنن لكم هذا الدين طالما أنتم على الإسلام وعلى الصلاح في العمل، وأنتم تعبدون الله ولا تشركون به شيئاً، قال تعالى: ((وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)) بشرط أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.