تفسير قوله تعالى: (فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري)
قال الله تعالى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون:١١٠].
فالكفار في الدنيا كانوا أقوياء لا يعبئون بالمسلمين، فينقلب الأمر عليهم يوم القيامة، يوم يحق الله عز وجل فيه الحق ويبطل الباطل، فلم تنفعهم قوتهم التي كانت في الدنيا، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:٩٤].
أي: فيجيئون إلى ربهم سبحانه فرادى لا يملكون مالاً ولا شيئاً ينفعهم ويدفع عنهم العذاب.
وفي قوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) قراءتان: القراءة الأولى بعدم الإدغام، وهي قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب.
والقراءة الثانية بإدغامها، وهي قراءة باقي القراء، فإنهم يدغمون الذال في التاء ويقرءونها تاءً.
و (سخرياً) كذلك فيها قراءتان: القراءة الأولى بكسر السين وهي قراءة نافع وأبي جعفر المدنيين، والقراءة الثانية بضم السين، وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف: (سُخرياً) وكأنها من التسخير، أي: سخرتموهم وألزمتموهم بأعمال شاقة وأتعبتموهم في الدنيا.
فقوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) بمعنى: تسخرون من المؤمنين وتستهزئون بهم، وبمعنى: أتعبتموهم بالأعمال الشاقة؛ لأنهم كانوا عليهم قادرين وقاهرين.
وقوله تعالى: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي}، فالكافر ينسى ذكر الله عز وجل، والمؤمن يدعو إلى الله عز وجل، فهو ذاكر لله سبحانه وتعالى، فكيف أنسى المؤمن الكافر ذكر الله؟
و
الجواب
أنساه المؤمن بأن انشغل الكافر به، فكلما ذكر المؤمن ربه كان الكافر له بالمرصاد يستهزئ به ويتعبه ويسخر منه.
فشغلة الكافر السخرية والاستهزاء والإتعاب للإنسان المؤمن، فانشغل بذلك عن أن يذكر الله وعن أن يتفكر فيما يقوله المؤمنون، قال تعالى: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:١١٠].
قال الله تعالى في السورة الأخرى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:٣٤ - ٣٦].
وقال تعالى قبلها: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:٢٩ - ٣١].
فالكفار إذا رأوا المؤمنين ضحكوا منهم حتى وإن أظهروا لهم كلاماً طيباً أمامهم، فإنهم من ورائهم يسخرون منهم، هذا إذا كان المؤمن قوياً، أما إذا كان المؤمن ضعيفاً فإن الكافر يستهين به علانية ويسخر منه ويستهزئ به.
وكذلك إذا انقلب الكفار إلى أهاليهم فإنهم يقولون: رأيت اليوم واحداً من هؤلاء المؤمنين! ويضحك منه ويستهزئ به ويجعله قصته في بيته.
فهو في الطريق يضحك من المؤمن وفي بيته ويوم القيامة يريهم الله عز وجل أعمالهم حسرات عليهم، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:٣٤].
فالكافر في نار جهنم والمؤمن ينظر إليه وهو في الجنة ويسخر منه ويضحك عليه كما كان يفعله في الدنيا، فقد انقلب عليه في هذا اليوم، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:٣٤ - ٣٦]، أي: هل جوزي الكفار ما كانوا يفعلونه في الدنيا؟