[تفسير قوله تعالى: (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:٥٢ - ٥٤].
في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأنه لا يقدر على إسماع الموتى إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
وإسماع الموتى يأتي على معنيين: إما الأموات غير الأحياء، وإما أموات القلوب أحياء الأبدان.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر أن يحول الناس من الكفر إلى الإيمان، وإنما الذي يقدر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى.
فإذا ماتت قلوب الناس لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره على إحياء هذه القلوب، إنما الذي يقدر على ذلك الله سبحانه وتعالى.
وهذا هو معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله، إذ المعنى لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد عن أمر إلى أمر إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وقد يشكل على البعض قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:٥٢] وكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطب قتلى المشركين في بدر وأخبر أنهم يسمعون كلامه! والصحيح أن الموتى على الحقيقة لا يقدر أن يسمعهم لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره إلا ما يشاء الله سبحانه، وأن إسماع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر لقتلى الكفار وقد ألقوا في قليب بدر ونداءه لهم وهو على رأس القليب: يا فلان، يا فلان، يا فلان، (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ وتنبيه عمر للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ما تسمع من جيف لا تسمع)، وتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم سماعهم بقوله: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) يعني: كما أنكم تسمعونني كذلك هم يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم في تأنيبه لهم، وفي تذكيره لهم؛ فهذا كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ العادة ألا يسمع الموتى كما أخبرت الآية إلا أن يشاء الله عز وجل؛ فأسمع الموتى نداء النبي صلى الله عليه وسلم بما يشاء الله سبحانه، وبذلك علم أن الأصل أن الأموات لا يسمعون نداء الأحياء، ولا يخاطبهم الأحياء فيفهمون أو يسمعون ما يقولون، ولكن إذا شاء الله عز وجل كان هذا الأمر.
وعلى المعنى الثاني أنهم أموات القلوب، ويكون المعنى أن الكفار الذين ماتت قلوبهم، لم يذكروا الله سبحانه، ولم تنفعهم الموعظة، ولم ينفعهم شيء، وأنه مهما حاول النبي صلوات الله وسلامه عليه إسماعهم وهدايتهم ولم يشأ الله عز وجل لهم الهدى، فإنهم لن يسمعوا ولن يهتدوا.
وفي قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:٥٢] إخبار أن هؤلاء ماتت قلوبهم فإذا بهم صم بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون وهم لا يعقلون، لا يرجعون قولاً ولا يفهمون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلهم يضحكون ويلعبون ويستهزئون بأشياء ليست محلاً لذلك، ولكن لجهلهم ولغباوة عقولهم، وللطبع والطمس على قلوبهم فإنهم لا يفهمون ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه.
وكالموتى الصم قال تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:٥٢] أي: من كان أصم لا يسمع فكيف تسمعه نداءك؟! والمراد هنا الصمم عن سماع الحق، فالمعنى: آذانهم قد صمت عن نداء الحق، فلا يسمعون الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعقلون ما آتاهم به من حجج، ويريهم الله الآيات ومع ذلك لا يحاولون أن يعقلوا ما فيها! وأي آية أكبر مما رأوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحكام هذا القرآن العظيم وإعجازه؟! وفي قوله سبحانه في هذه السورة الكريمة: {غُلِبَتِ الرُّوم * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:٢ - ٣] تحقق ما ظنوه مستحيلاً فوجدوه كما أخبر الله سبحانه ومع ذلك لم يؤمن كبار الكفار! ومن الآيات: ما سألوه من النبي صلى الله عليه وسلم: أن يشق لهم القمر، ووعدوه إن هو فعل ذلك فسوف يؤمنون، (فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه في ليلة من الليالي، ثم يشير إلى القمر بيده صلى الله عليه وسلم فينشق القمر) يقول الله سبحانه عن تلك الآية: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:١]، فيرون القمر فلقتين، فلقة أمام الجبل وفلقة خلف الجبل، ومع ذلك لا يؤمنون، ماتت قلوبهم فلا حياة لهذه القلوب، وصمت آذانهم فلا يعقلون ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم! وبمعنى قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:٥٢] قوله سبحانه عن هؤلاء: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:١٨].
الإنسان الأصم هو: الأطرش الذي لا يسمع، قوله: (بكمٌ)، أي: لا ينطقون، وقوله: (عُميٌ)، أي: لا ينظرون، فلو أن إنساناً أصم لا يسمع، وأبكم لا ينطق بما يريد، وأعمى لا يبصر، قد اجتمعت فيه هذه الآفات كلها فهو كما قال الله سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:٢٢]، فإنه ولا شك يتعذر التواصل معه، فلا ينتفع بشيء، وهؤلاء قد صمت آذانهم فلا يسمعون نداء الحق.
وعميت أبصارهم فلا ينظرون إلى الحجج، وذهبت عقولهم فلا يعقلون ولا يفهمون ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وبكمت ألسنتهم فلا ينطقون بحجة سليمة ولا برأي سديد.
وفي قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:٥٢] قراءتان، الأولى: قراءة الجمهور وهي المتقدمة، وقرأ ابن كثير: (ولا يسمع الصم الدعاء) أي: أن الإنسان الأصم لا يسمع نداء من يناديه، وكيف يسمع وقد صمت أذناه؟! وما يؤكد أن الصمم في قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:٥٢] ليس الصمم في خلقة الأذن، قوله تعالى: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:٥٢] يدبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لا يحاولون أن يفهموا أو يسمعوا ما يقوله عليه الصلاة والسلام إذا ناداهم، وليس ذلك فحسب، بل هم كذلك يستغشون ثيابهم، ويجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا منه ما يقول.