تفسير قوله تعالى: (وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٣٩ - ٤١].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أن الإنسان مهما أتى من مال يبتغي به الدنيا فالله عز وجل قد يعطيه وقد لا يعطيه، فمن كان يريد الحياة الدنيا يعجل الله عز وجل له فيها ما يشاء لمن يريد سبحانه تبارك وتعالى كما قال تعالى: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨].
فليس كل من طلب الدنيا نالها وأخذها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨] وكأن طالب الدنيا قد يطلبها ويعطيه الله عز وجل وليس له في الآخرة نصيب، وقد يطلبها ولا يعطاها ولا يأخذ شيئاً من الدنيا، وكذلك ليس له في الآخرة من نصيب.
أما طالب الآخرة فلا يحرم أبداً، لا يحرم من ابتغى وجه الله سبحانه، ومن أراد بعمله الصالح الثواب والدار الآخرة فهذا لا يحرم أبداً، ويعطيه الله رحمة في الآخرة من فضله ورحمته سبحانه.
قوله: (وما آتيتم من رباً) ذكرنا أن الربا قسمان: ربا نزلت الآيات في تحريمه، قال الله سبحانه في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:٢٧٨ - ٢٧٩]، وقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:٢٧٦] إلى غير ذلك مما ذكر الله عز وجل في أمر الربا، فآكل الربا يستحق حرباً من الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويستحق أن يمحق الله عز وجل عنه البركة في الدنيا، وأن يكون من أصحاب الكبائر في الآخرة، فهذا آكل الربا، والإنسان الذي يعطي الصدقة له الفضل عند الله سبحانه والأجر العظيم، وانظر كيف قرن بين الربا وبين الصدقات؛ لأن الناظر إلى الربا بنظرة دنيوية يرى أن الربا يزيد المال، فيقول: سندينك ألفاً فتقضينا ألفين، وسندينك عشرة فتعطينا خمس عشرة، فينظر بهذه النظرة أن هذا الربا سيزيد المال، وربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٦]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الربا عاقبته إلى قلة) وإن كثر فعاقبته إلى قلة، إلى النقصان، فمال الربا مال ضائع في النهاية على صاحبه، فيبتدئ الله عز وجل صاحبه إما بمحق ماله وإما بتحسيره على هذا المال، فيتحسر عليه وهو يضيع منه، أو لا يستطيع أن ينتفع به، أو تنزع منه بركته، أو ينظر في حسرته وما يكون من أمره يوم القيامة.
أما الصدقة وإن كان الناظر إليها في الدنيا يظن أن فلاناً يضيع ماله، كل وقت وهو يخرج صدقة وراء صدقة، وسينتهي ماله، ولكن الله عز وجل يذكر لنا أنه يمحق الربا ويربي الصدقات، والربا: أصله الزيادة والنماء، فلما أراد الإنسان الزيادة والنماء بالحرام محقه الله سبحانه، ولما أراد أن ينفق ماله ويصرف هذا المال في طاعة الله نماه الله وبارك له فيه، وزاد له هذا المال، لذلك قرن الله بين الاثنين: الربا والصدقة فذكرهما في هذا الموضع من سورة البقرة قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:٢٧٦].
وهنا صورة أخرى من صور الربا، ولكنها ليست بالصورة المحرمة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناها في الحديث السابق، وهو نوع من أنواع الزيادة في المال، وهي الهدية، أن أعطيك هدية تساوي كذا فتعطيني أحسن منها، فهذه جائزة بين الناس، ولكنها ليست محمودة، ولذلك نهي عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له ربه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:٦] يعني: لا تمن بالعطاء لتطلب استكثارًا من أموال الناس.
يقول الله سبحانه: (وما آتيتم) وهذه فيها قراءتان، وما (آتيتم) هذه قراءة الجمهور بالمد، وقراءة ابن كثير (وما أتيتم)، فإذا وصل ابن كثير يقول (وما أتيتمو من ربا) بمعنى: جئتم، كأنه هذا الشيء يؤتى فذهبتم إليه، هذا على قراءة ابن كثير، وقراءة الجمهور بمعنى: ما أعطيتم من هدية تطلبون عليها هدية أحسن منها في الدنيا، فعلى ذلك هذا من الربا غير المحرم، وإنما هو صورة من الصور، وهذا مكروه وليس محرماً، إذا فعله إنسان لا يأثم، وكثير من الناس يفعلون هذا، يعطي أحدهم هدية إلى إنسان وينتظر أن يعطيه أحسن منها.
قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم:٣٩] (ليربو) هذه قراءة الجمهور، و (لتربوا في أموال الناس) قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب، يعني: لتزيدوا، وهنا فيها معنيان: المعنى الأول: ليربوا في أموال الناس يعني: أنت أعطيت من مالك لأجل أن يزيد عند فلان، حيث يرد لك أحسن منه، وهذا يسمى الإثابة على الهدية، والإثابة: هي أن يعطيه الإنسان ثواب هذه الهدية، وهذا مثلما تذهب إلى شخص في العيد، فتعطي كل واحد من عياله خمسة جنيه، وتنتظر أن يأتي فيعطي عيالك عشرة جنيه لكل واحد منهم، فهذا ليس حراماً، ولكن يكره هذا الشيء.
وبعض العلماء كـ ابن عباس وغيره يقول: هذه آية نزلت في هبة الثواب، ويذكر بعضهم مثل الشعبي يقول: معنى الآية ما خدم الإنسان به أحداً وخف له لينتفع به في دنياه.
ويقول ابن عباس أيضاً: نزلت في قوم يعطون قرابتهم وإخوانهم لأجل نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ليزيدوا في أموالهم، وكأنها هنا صورتان: الأولى: يعطي الشخص لأجل أن يعطيه أكثر، والصورة الثانية يعطي أقرباءه من المال لأجل أن يظهروا أنهم أغنياء، فيفتخر بأن أقاربه أغنياء، فهذا عطاء للدنيا ليس فيه ثواب؛ لأنهم طلبوا هنا المظهر، وهنا فرق بين أن يعطي الأقارب ويريد أنه يبقى عندهم مال، ليس للمظهر وإنما لأجل أن ينفق القريب على عياله، حتى لا يبقى عالة يمد يده للناس، فهذا له أجر عظيم عند الله سبحانه، الفعل واحد، والنية تخالف بين عمل وعمل آخر، فقد تعطي أقرباءك تبتغي النفع لنفسك، فتقول في نفسك: إما أن أعطيهم لأجل أن يعطوني بعد ذلك، وإما أن أعطيهم حتى يكونوا تبعاً لي، فأكون أمشي وهم يمشون ورائي، وأتكلم فيسمعون لي، لأنني أعطيهم مالاً، فهذا كله لا أجر فيه في الآخرة، إنما الأجر في الآخرة أن تعطي دون مقابل، ولذلك كانت الصدقة على ذي الرحم الكاشح أفضل من الصدقة على ذي الرحم المواصل؛ لأنك أعطيت شخصاً تستجلب فيه المودة، وليبقى بينك وبينه إحسان، فإذا أعطيت الرحم الكاشح كان خيراً لك من إعطاء غيره.
وهذه الآية: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ} [الروم:٣٩] تمهيد لتحريم الربا، فإن ربنا سبحانه وتعالى يحذر في هذه الآية المكية من الربا، وكأنه يقول: إننا سنحرمه بعد ذلك، فالربا لا يربو عند الله سبحانه، والربا معناه: أن تعطي إنساناً نقداً، ثم تطلب منه أكثر من ذلك قضاءً، كإنسان يقرض قرضاً فيطلب عليه فائدة، فهذا هو الربا.