للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)]

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠]، من الصفات الكريمة في الإنسان المؤمن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ)، أي: يعطون، فيعطون عملاً، ويعطون مالاً، ويعطون إخلاصاً ونية، ويعطون ويقدمون أعمالاً تكتبها الملائكة، فهم يعطون الأعمال والملائكة يكتبونها، فكل أعمالهم على الإخلاص وعلى التقوى، وهم كما قال الله تعالى: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)، أي: قلوبهم خائفة وخاشعة لله رب العالمين، (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، فالمؤمن يعرف أنه راجع إلى الله، فمهما عمل من عمل ينظر أمامه: يا ترى هل هذا العمل موافق للكتاب والسنة أو مخالف لهما؟ وهل هو موافق لمراد الله؟ وإذا كان موافقاً فهل هذا الذي أعمله أنا مخلص فيه أو لست مخلصاً؟ فهو يقدم العمل المتابع للكتاب والسنة وينظر في إخلاصه، وبعد ذلك يخاف ألا يقبل هذا العمل.

وقد جاء في حديث عند الترمذي وابن ماجة ما يوضح لنا هذا المعنى، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:٦٠]: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟)، أي: يؤتون ما آتوا من المعاصي وهم خائفون؟ هل هذا هو المعنى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون ألا يقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).

هذه هي طبيعة المؤمن، وهي فطرة الله سبحانه وتعالى، فقلبه قد عرف ربه، وصدق وآمن، فهو يخشى ربه، ففي قلبه الإيمان الذي عرفه بقدرة الله سبحانه، والناس ما قدروا الله حق قدره، والإنسان المؤمن يحاول أن يصل إلى درجات المعرفة واليقين العالية، فهو في خوف من الله سبحانه وتعالى، فيؤتي ما آتى، يصلي ولا يمن، ولا يقول: أنا صليت، وأنا سأدخل الجنة، بل يعطي زكاته ويتصدق بالصدقة ويعمل الخيرات ولا يركن إلى ذلك أنه قد نجا بهذا الشيء، فتراه يخاف ألا يقبل منه.

فإذا كان إبراهيم النبي المعصوم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقولان لله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:١٢٧]، وهما يبنيان البيت الذي سيحج إليه الملايين من البشر إلى يوم الدين، وهذا يعني أنه (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها)، فالإنسان الذي يبني لله عز وجل مسجداً كلما صلى فيه إنسان كان له بهذا الذي بناه أجر، إذاً: سيكون أجر إبراهيم وإسماعيل ببنائهم هذا البيت من آلاف السنين ويحج إليه الملايين ويصلون فيه ما لا يحصيه من الأجور إلا الله، ومع ذلك يخافون من الله ألا يقبل منهما، فيقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:١٢٧]، فالإنسان المؤمن يخاف من الله سبحانه ألا يقبل عمله، ويعمل العمل وهو ينظر إلى الآخرة أنه راجع إلى الله، فيخاف أن يموت على غير الإسلام، فيقول كما قال يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ذكر الملك الذي هو فيه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:١٠١].

فيوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام آتاه الله الملك والعلم والنبوة، وعلم تأويل الرؤى والأحلام، وآتاه الله عز وجل من فضله في الدنيا، وهو وليه سبحانه، دافع عنه، وكان معه حين طرده إخوته، ووضعوه في غيابة الجب، وحين أُخِذَ عبداً وحين نجاه الله سبحانه وتعالى، فجعله ولداً عند من أخذوه وربوه، وبعد ذلك صار عزيزاً لمصر عليه الصلاة والسلام.

مع كل ما أعطاه الله من النعم والأفضال يقول: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا)؛ لأن هذه الدنيا لا تساوي شيئاً، إنما المهم هي الآخرة، فثبتني على دين الإسلام حتى ألقاك عليه، وتوفني على الإسلام، قال تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

نسأل الله عز وجل أن يتوفانا مسلمين وأن يحلقنا بالصالحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>