للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تكذيب رسول واحد تكذيبٌ لجميع المرسلين

هذه قصة أخرى من القصص العظيمة التي يذكرها لنا ربنا سبحانه وتعالى في سورة الشعراء بالسياق نفسه الذي ساقه قبل ذلك، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:١٠٥]، فذكر أن قوم عاد كذبوا المرسلين، مع أن رسولهم كان رسولاً واحداً، فقال الله عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:١٢٣]؛ لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، فكل رسل الله عليهم الصلاة والسلام دعوتهم واحدة، فهم يدعون إلى عبادة الله، قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:٦١]، فهم يدعون أقوامهم إلى توحيد الله، وإلى دين رب العالمين، فمن كذب واحداً منهم فيما يأمر من توحيد الله فقد كذب جميع رسل الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ} [الشعراء:١٢٣]، ذكر الله سبحانه هذه القبيلة، وذكر ثمود وذكر قبل ذلك قوم نوح، وذكر إبراهيم، والعرب يعرفون تماماً من هؤلاء، وذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكرر ذلك في القرآن في مواطن كثيرة، وأهل الكتاب يعرفون ذلك تماماً، فالله سبحانه خاطب الجميع بأنه أرسل رسلاً يعرفهم العرب ويعرفهم أهل الكتاب، فموسى عرفه أهل الكتاب، وأخبر الله عز وجل عن أشياء تفصيلية في قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يعرفها إلا من قرأ التوراة، واطلع على كتب أهل الكتاب، وكانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ التوراة ولا الإنجيل، ولم يقرأ كتاباً قط، ولم يكتب صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج خارج مكة ليتعلم من أحد وإنما خروجه كان في تجارات ورحلات معلومة معدودة، فإن بعض أهل مكة خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الرحلات كان معه عمه أبو طالب، والكل يعرفون أين يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم في تجارته، وكيف يرجع، وهو لم يقابل أهل الكتاب ويجلس معهم ليستمع منهم مثلاً، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فحين يجدون تفصيلات عجيبة في هذا القرآن عن ذكر الأنبياء السابقين لا يعرفها إلا من اطلع على الكتب السابقة فإن ذلك يدل على أنه يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه من عند رب العالمين.

فقوم عاد كانوا في جنوب الحجاز بين الحجاز واليمن، وقوم ثمود كانوا في شمال الحجاز بين الحجاز وبين الشام، فقد كان لقريش رحلتان، قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:١ - ٢]، فكانت لهم رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف، فيتوجهون إلى الشام ويتوجهون إلى اليمن في رحلتين تتكرران دائماً، فإذا ذهبوا إلى الشام مروا على ديار ثمود، وكانوا يعرفون وعرفوا أن قوم ثمود كانوا هنا، وهنا أهلكهم الله، وحجر ثمود معروف، وإذا ذهبوا إلى اليمن مروا على ديار عاد، وعرفوا أن ديار عاد كانت هنا، وأهلكهم الله عز وجل في هذا الموطن، ويعرفون أن في هذا البلد الأمين الذي هم فيه كان إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان ابنه إسماعيل كذلك، وقد دعاهم إبراهيم ودعاهم ابنه إسماعيل إلى توحيد الله سبحانه فإذا بهم يعبدون أصناماً من دون الله، وقد رأوا ما حاق بالأمم من قبلهم، فهؤلاء قوم عاد أهلهكم الله في هذا المكان الذي عرفتم، وهؤلاء قوم ثمود أهلكهم الله عز وجل في هذا المكان الذي عرفتم.

يقول سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ} [الشعراء:١٢٣ - ١٢٤] أي: كذبوا لما قال لهم أخوهم ورسولهم هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:١٢٤]، فيخاطب قومه: ألا تتقون الله سبحانه وتعالى فتوحدونه وتؤمنون به وتعبدونه وتطيعونني فيما جئتكم به من وحي من عند رب العالمين؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:١٢٥]، فهو رسول يدعوهم إلى الله، ويدعوهم إلى التوحيد وإلى شرع رب العالمين سبحانه، فقال: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:١٢٥] يعني: مؤتمن من عند رب العالمين على هذه الرسالة، وقد عرفتم أنتم أمانتي، فما من رسول يبعثه الله عز وجل إلى قومه إلا وهم يعرفون سلفاً أنه أمين، وأنه لا يكذب، وأنه لا يقع في الفواحش ولا في الذنوب، فالرسل عليهم الصلاة والسلام يذكرون أقوامهم بقوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:١٢٥] أي: قد عرفتم أمانتي، فإذا لم أكن قد خنتكم قط قبل ذلك فكيف أخون الله رب العالمين سبحانه وأبلغ شيئاً لم يقله؟ وإذا لم أكن كذبت عليكم يوماً من الأيام فكيف أكذب على الله سبحانه؟! قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:١٢٦]، دعاهم ليتقوا الله، وحثهم على ذلك، وأمرهم بذلك: اتقوا الله وأطيعون، وهذه كسابقتها قراءة الجمهور: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:١٢٦]، وقراءة يعقوب وصلاً ووقفاً: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي).

<<  <  ج:
ص:  >  >>