القراءات في قوله (بيوتاً)
في هذه الآية قراءتان: قراءة ورش وأبي عمرو وحفص عن عاصم، وجعفر ويعقوب: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:٢٧] بضم الباء في بيوت.
وقراءة باقي القراء: {لا تَدْخُلُوا بِيُوتًا غَيْرَ بِيُوتِكُمْ} [النور:٢٧] بكسر الباء فيها.
قال: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:٢٧]، والاستئناس هو طلب الأنس الذي يكون بين الناس، والألفة التي تكون بيهم، فالألفة تكون بالحديث وبالمودة؛ لأنك إذا اقتحمت على الناس بيتهم يخافون من دخولك، فجعل الله أمرين هنا: أمر الاستئذان بالقول، وكذلك تؤنس هذا الذي دخلت عليه من نفسك فيستشعر الراحة، ويستشعر الألفة والمودة، فيستمع إليك فيما تريد.
فالله عز وجل كرم بني آدم فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:٧٠].
فمن تكريم الله عز وجل للإنسان أن خلقه إنساناً يمشي على قدميه، وليس كغيره من الحيوانات التي تمشي على الأيدي والأقدام.
وجعل للإنسان عقلاً يفكر به، وجعل له مراكب يركبها، وحمله في البر والبحر، وجعل له بيتاً لراحته، وجعل الأرض كفاتاً للإنسان في حياته ومماته، ففي الحياة هو فوق الأرض، وفي الممات هو في باطن الأرض، وأكرمه الله عز وجل بأن جعله يستتر في الدنيا في البيت، ويستتر في الموت بالقبر، فالبيت سترة للإنسان يقضي فيه حاجته، أو يغير فيه ثيابه، ويتحرر فيها من أشياء تكون أمام الناس قيوداً عليه، وفي بيته يتخفف من ثيابه، وينام كما يشاء.
فالبيت مكان راحته، فلذلك جعل لهذه البيوت آداباً بحيث إنه لا أحد يحرج الآخر في بيته ولا يضايق عليه، فخصص الله عز وجل بني آدم بالمنازل، وأما الحيوان فيقضي حاجته في الطريق، والإنسان يذهب إلى بيته فيستتر تكريماً من الله عز وجل له.
فستره عن أبصار غيره في بيته، وجعل له الاستمتاع بهذه البيوت على الانفراد، وجعله ملكاً في بيته، وهذه من المنن التي منّها ربنا سبحانه على بني إسرائيل قال: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة:٢٠].
فليس كل واحد من بني إسرائيل سيكون ملكاً على الناس، وإنما المقصود كالملوك، والملك لا يختلف كثير عن غيره من الناس، فهو يملك بيتاً، وأنت تملك بيتاً، وتملك مالا، وتملك طعاماً وشراباً، وعندك أمن في بيتك.
فالله عز وجل جعل للإنسان طعامه وشرابه، وجعل له مكان أمنه في بيته، وملكهم الاستمتاع بها على الإنفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على الإنسان في بيته، ومنعهم من النظر داخل البيت حتى يستأذنوا ويلجوا بإذن، وأما بغير إذن فلا يحل لأحد أن يطلع على بيت أحد بغير إذنه.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقأوا عينه).
ومعنى الحديث: إذا كان الإنسان يتجسس وينظر إلى نافذة إنسان آخر أو من داخل ستارة أو نحوها، جاز لهذا الآخر أن يفقأ عينه ولا دية في ذلك.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً نظر إليه وهو في بيته وبيده مدرى -أي: عود يمشط به شعره صلى الله عليه وسلم- والرجل يتلصص وينظر، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقأ عينه به، ثم قال: إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) وذلك أن الإنسان له حرية بداخل بيته، فمن حقه أنه يكون له أشياء يسترها عن غيره، وليس من حق أحد أن يتدخل في ذلك.
وذكر الإمام الطبري في سبب نزول هذه الآية ما جاء عن علي بن ثابت: (أن امرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد) فالمرأة في بيتها لعلها تخلع شيئاً من ثيابها فلا تحب أن يراها أحد إلا إن يكون زوجاً لها، قالت: (لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل علي الرجل من أهلي وأنا على تلك الحال) يعني: يأتي أبوها يفتح الباب ويدخل، ولعلها تكون متجردة من ثيابها، فيدخل الأب على هذه الحالة، فشكت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧].
قالوا: والاستئناس بمعنى الاستعلام، أي: طلب العلم، كأنك تعلم من بداخل البيت أنك موجود في الباب، والاستئناس يكون قبل الدخول وبعده، وأما قبل الدخول فيكون بصوت يعلم أن هذا الإنسان موجود بالخارج، ثم إذا كان الآخر يسمع، فيقول: السلام عليكم أأدخل؟ أما بعد الدخول فيكون الاستئناس بالمودة في الكلام، حتى يرتاح الآخر بدخولك عليه.
ومن ذلك لما دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد غضب على نسائه واعتزل في مشربة له، فخشي عمر وغيره أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد طلق نساءه، فذهب عمر للنبي صلى الله عليه وسلم واستأذن، فلم يؤذن له إلا في المرة الثالثة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وجلس فوجد النبي صلى الله عليه وسلم غضبان، فجلس ساكتاً وبعد قليل استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام، فأذن له فتكلم عمر حتى ضحك النبي صلى الله عليه وسلم.
فالغرض أن الاستئناس إذا كان قبل الدخول فهو من باب الاستئذان والاستعلام، أو إعلام من في الداخل بوجود هذا الذي في الخارج، ثم يستأذن فيدخل، فإذا دخل فيؤنس أهل البيت بالكلام الطيب الذي يقوله والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.