للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا)]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:٦ - ١٨].

في هذه الآيات من سورة الصافات يخبرنا الله سبحانه وتعالى كيف أنه زين السماء الدنيا بزينة الكواكب، قال: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:٦]، فالكواكب والنجوم زينة للسماء الدنيا، كذلك فيها رجوم للشياطين، كذلك بالنجم هم يهتدون، يهتدي العباد فيعرفون طرق سيرهم شمالاً من جنوب، وشرقاً من غرب، فيعرفون الشمال والجنوب، والشرق والغرب، عن طريق النظر إلى الكواكب، والنظر إلى النجوم.

زين الله عز وجل السماء الدنيا بزينة الكواكب، وجعلها حفظاً من كل شيطان مارد، فيلقي بالكوكب الشاهب المحرق على الشيطان الذي يسترق السمع من السماء، وكانت الشياطين قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم تسترق السمع من السماء في طرقها، يسمعون ما يقول الملائكة بعضهم لبعض: إن الله قضى بأمر كذا وكذا، ويكون كذا وكذا في الأرض، فتأخذ الشياطين ما تسمعه من الملائكة وتنزل به إلى الأرض، وتلقيه إلى الكهان كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، ((وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) [سبأ:٢٣]).

فالملائكة يأتيهم أمر الله عز وجل فيفزعون حين يسمعون ذلك خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وتفزع الملائكة وتضرب بأجنحتها خضعاناً لأمر الله سبحانه وتعالى قال: (كالسلسلة على صفوان)، يسمع صوت عظيم جداً من ذلك، كضرب سلسلة على حجر أصم، ومعنى الصفوان: الحجر الأصم، ينفذهم ذلك، قال تعالى: {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:٢٣]، وفزع بمعنى: أزيل الفزع من قلوب الملائكة فيطمئنون ويسأل بعضهم بعضاً، ماذا قال ربكم؟ فيجيب من علم بأمر الله سبحانه، ويقول: الحق، ويقول: قال ربنا كذا وكذا، وأمر بكذا.

فتسترق الشياطين السمع من السماء، واستراق السمع: من السرقة، بمعنى: يخطف السمع، يسمع ما يريد أن يأخذه قبل أن يحرقه الله سبحانه وتعالى، يسترق السمع من السماء، وينزل به إلى الأرض ليخبر غيره من شياطين الإنس والجن.

فيقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث هنا: (ومسترق السمع هكذا واحد فوق آخر)، فوصف راوي الحديث أبو سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى، نصبها، بعضها فوق بعض، (فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي به إلى صاحبه فيحرقه).

إذاً: الشياطين تركب بعضها على بعض وأشار بيده هكذا، شيطان فوق شيطان، يركب بعضهم على بعض؛ حتى يتنصتوا إلى خبر السماء، ماذا تقول الملائكة، (ويسترقون) أي: يسرق الشيء الذي يصنعه، يخطفه وينزل به إلى الذي أسفل منه ويخبره أنه سيحصل كذا، وهذا يخبر الذي أسفل، والله يشاء ذلك، ويريد أن ينزل هذا الخبر إلى الأرض فتنة لأهل الأرض، ولكن الذي استرق السمع وسمع هذا الخبر، يرسل الله عز وجل عليه كوكباً شهاباً حارقاً فيحرقه، وقد يحرق الجميع سبحانه وتعالى، وقد يترك بعضهم يبلغ هذا الخبر إلى الأرض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي به إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي به إلى الذي يليه، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض، فتلقى على فم الساحر والكاهن، فيكذب معها مائة كذبة).

فالشيطان يحدث الساحر ويحدث الكاهن سيحصل كذا في يوم كذا، ويكذب فوقها مائة كذبة، والشيطان يكذب على الإنسان، والإنسان يكذب ويزيد فيها أيضاً ويخبر الناس، قال: (فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا، ويكون كذا وكذا، فوجدناه حقاً للكلمة التي سمعت من السماء).

هذا لفظ حديث البخاري، وروى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (سأل أناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان)، الكاهن: هو الذي يخبر بأخبار غيبية، فيكون بعضها كالذي حدث به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليسوا بشيء -إنهم كذابون- فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة).

ولو أن الكهان كل الأخبار التي يخبرون بها كانت كاذبة لم يصدقهم أحد، ولم يذهب أحد يستشيرهم في شيء، ولما احتجنا أن يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصدقوا كاهناً ولا عرافاً) ولكن لابد أن يبتلى العبد بشيء، أن يصدق هذا الكاهن في شيء؛ ليكون فتنة للناس، والإنسان إذا عرف أن فلاناً كذب، كل كلامه كذب، ولكن متى يحتمل أن يصدق هذا الإنسان؟ لما يتكلم بكلام يظهر أنه حق وكلام آخر يكون فيه كذب.

فالله عز وجل يجعل هؤلاء فتنة للناس، أن ينزل الخبر من السماء مع هذا الجني، مع هذا الشيطان فيقرقره في أذن وليه كقرقرة الدجاجة، يعني: ينزل الشيطان ويقرقر مثلما الدجاجة تقرقر، كذلك هو في أذن وليه، يحصل كذا ويحصل كذا، ويحصل كذا، فيكذب الشيطان على الإنسان، والإنسان يكذب فوق ما سمعه، فيحدث الناس بهذا الشيء، فإذا قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تأتوا الكاهن ولا تصدقوا العراف)، ننفذ ما أمرنا به صلى الله عليه وسلم، وننتهي عما نهانا عنه صلوات الله وسلامه عليه، حتى ولو رأينا منهم خبر صدق في يوم من الأيام، فالمفترض علينا أن لا نصدق أحداً يقول هذا، فإنه لا يعلم الغيب، وقد عرفنا أن الشيطان يلقي إلى الكاهن الخبر الصادق مع مائة من الأخبار الكاذبة.

قال الله عز وجل: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:٧] يعني: حفظ الله عز وجل السماء من أن يدخلها، أي: يدخل من أبواب السماء، يدخل إلى السماء الدنيا والسماء الثانية والثالثة لا يدخلها، ممنوع الشيطان من ذلك، يسترق السمع تحت السماء فقط ويختلس، أما أنه يخترق السماء هذا لا يكون أبداً، قال: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:٧]، والمارد: المتمرد العاتي الطاغي، الذي جاوز حده.

وقوله تعالى: {وَحِفْظًا} [الصافات:٧] أي: حفظنا السماء وحفظنا أخبارها، {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:٧].

<<  <  ج:
ص:  >  >>