[تفسير قوله تعالى:(قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم)]
يسأل الله الملائكة في الموقف العظيم توبيخاً لهؤلاء الذين عبدوهم، وحتى يعذبهم الله سبحانه، ويعلمون أن الله ما ظلمهم سبحانه، أأنتم قلتم لهم: اعبدونا من دون الله؟ تقول الملائكة: حاشا لله ما قلنا لهم ذلك، قال تعالى:{قَالُوا سُبْحَانَكَ}[سبأ:٤١] أي: تنزيهاً لك، وتقديساً لك، فالله سبحانه المنزه عن كل عيب وعن كل نقص سبحانه وتعالى، والمنزه أن تكون له الصاحبة أو يحتاج إلى الولد، أو يكون له الولد سبحانه، فقالوا: سبحانك أي: تنزيهاً لك، وتسبيحاً لك، نسبحك ونقدسك، وننزهك عن أي عيب ونقص، وننزهك عن أن يكون لك الولد أو لك الصاحبة.
قال سبحانه:{قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}[سبأ:٤١] أي: أنت الذي تتولى أمورنا من هؤلاء، توليناك وعبدناك أنت، فأنت ولينا الذي تتولى أمرنا، فالذي يتولى ربه سبحانه يتولاه الله عز وجل بمعونته وبنصره وبحمايته، فهي هداية منه سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى:{أَنْتَ وَلِيُّنَا}[سبأ:٤١] أي: فولاؤنا لربنا سبحانه وتعالى من دون هؤلاء، ونتبرأ إليك من هؤلاء ولا ولاية بيننا وبينهم.
{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}[سبأ:٤١] أي: هؤلاء الكذابون لم يكونوا يعبدوننا، إنهم لم يرونا حتى يعبدونا، بل كانوا يعبدون الجن، هؤلاء كما ذكرنا قبيلة من قبائل خزاعة عبدوا الجن من دون الله، وزعموا أن الجن كانت تتراءى لهم فعبدوهم، وزعموا أن هؤلاء الجن ملائكة، وأنهم بنات الله؛ لذلك فإن الملائكة تكذبهم، ويقولون لله عز وجل: لم يعبدونا، وإنما عبدوا الجن من دونك، قالوا:{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:٤١] أي: أكثرهم بالجن مؤمنون مصدقون، والجن يكذبون عليهم وهم يصدقونهم في ذلك، والجني يفرح أن الإنسان يعبده من دون الله، فهو شيطان يكذب على الإنسان، وإذا بالإنسان يتولاه من دون الله، وكان للجن أمور مع هؤلاء الكفار في الجاهلية، إذ كان الواحد منهم يخاف ويمشي في الصحراء وحده، فإذا مشى ينادي في الصحراء من خوفه ويقول: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: أستجير وأستغيث برب هذا الوادي، وإذا لم يقل ذلك فإن الجن تلعب به، تناديه وتزعجه وتخيفه وهو في الطريق، فكان يكفر بالله عز وجل ويقول: إنه يستغيث ويستجير برب الوادي، يعني: بالشيطان الذي في هذا الوادي، فتفرح الجن بذلك؛ لأنهم عبدوهم من دون الله فيتركونهم, وإذا لم يفعلوا ذلك تتلاعب بهم الجن.
فقوله تعالى:{أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:٤١] يعني: مصدقون أن الجن ينفعونهم ويضرونهم من دون الله سبحانه، ومعتقدون في الجن أنهم يعلمون الغيب، ولذلك قدم لنا ربنا سبحانه قبل أن يذكر كلام هؤلاء المشركين قصة سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أنه من عادة الجن إذا صادقهم البشر أنهم يتطاولون عليهم، ويظهرون أنهم أحسن منهم، وأنهم يعلمون الغيب، والبشر لا يعلمون شيئاً، فقد كان الجن في عهد سليمان عليه الصلاة والسلام يزعمون ذلك، ولذلك جعل الله عز وجل موت سليمان آية من الآيات، إذ جعله متكئاً على منسأته، وتوفاه الله وهو على هذه الهيئة، متكئاً على منسأته واستمرت الجن مسخرة لأمر سليمان سنةً كاملةً وهو على هذا الحال، حتى جاء أمر الله سبحانه؛ فإذا بدابة الأرض تأكل منسأته فسقط سليمان، فلما سقط {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ:١٤] تبينت الجن: اتضحت الجن وتبينت الجن للناس وظهر أمرهم وافتضحوا أمام الناس أنهم لا يعلمون شيئاً من الغيب، وأنهم كذابون في ادعائهم علم الغيب، فعادة من هو صادق من الجن أن يكذب الجن عليه، وقد يكون الجن جناً مؤمنين وجناً كافرين، فالجني المؤمن لا دخل بالبشر، ولا علاقة له بالبشر، ولا يتعرض لهم، لكن الجني الكافر والفاسق يتعرض للإنسان ليغويه، ويبعده عن طريق الرحمن سبحانه وتعالى، كما فعل الجن بهؤلاء الكفار الذين عبدوهم من دون الله فأضلوهم، وأوهموهم أنهم ملائكة، وأنهم بنات الله، فعبدوهم من دون الله، فالله عز وجل يحشرهم يوم القيامة، ويظهر كذب الجن الذين زعموا ذلك، والإنس الذين صدقوهم في ذلك، وقد أمرهم ربنا سبحانه ألا يصدقوهم، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}[الجن:٦] يحذرهم الله سبحانه، فهؤلاء رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن، أي: يتعوذون ويستغيثون بالجن؛ لينفعوهم من دون الله، فزادوهم رهقاً وأتعبوهم، وزادوهم مرضاً فوق أمراضهم؛ لفعلهم ذلك.