للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله)]

ثم قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠] أي أن: (كل مولود يولد على الفطرة)، فلا أحد يقدر على تغيير خلق الله سبحانه وتعالى، ولن يلعب الإنسان بهذه الفطرة فيغيرها، هذا يولد على الإسلام وذاك يولد على النصرانية، مع أن كل مولود مفطور على ذلك، وقد ابتدأه الله سبحانه وأنشأه على قلب مستقيم، وهذا مثلما تولد البهيمة فيراها الإنسان سليمة، ثم بعد ذلك يقطع أذنها وأنفها ويدها أو رجلها، فهو في الحقيقة من يبدل ويغير فيها، وكذلك المولود ولله المثل الأعلى.

أما دين الله سبحانه فلن يقدر أحد أن يغيره من قلب المولود الذي يولد إلا أن يكبر هذا المولود، ثم بعد ذلك يهوده أبواه أو ينصرانه أو يمجسانه، أما أنه يولد على غير هذه الملة وهذا الدين فلا، وهذه فطرة الله ولا تبديل لخلق الله.

وقد قيل في قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠] يعني: لقضاء الله وقدره، وهذا صحيح أيضاً، وإن كان المعنى الأول أقرب، فإذا قدر الله شيئاً فلن يقدر أحد أن يغير قدر الله سبحانه، فقد خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها؛ لأن الله أعلم بما كانوا عاملين، فهؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وحين يولد يكون الإنسان في بطن أمه، ويبعث الله عز وجل الملك ليكتب عمره وعمله وأجله وشقاوته وسعادته ورزقه؛ فإن هذه الأشياء تحدث قبل أن يعمل الإنسان أي عمل بعد، ولكن الله -بعلمه المحيط سبحانه- علم أن هذا سيعمل بالشر فيكون من أهل الشر والشقاوة في الآخرة، ولم يطلع الله سبحانه وتعالى العبد على ما هو عامله؛ ولذلك فليس للعبد أن يحتج على الله سبحانه وتعالى، فإذا احتج وقال: يا رب كتبت علي ذلك! فإنه يقال له: ومن أعلمك أن الله كتب عليك ذلك؟ (إن العبد يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ويعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فأمر القضاء والقدر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وقد يرى الإنسان وهو في غاية الشقاوة، ثم إذا بالله سبحانه وتعالى يقلب حاله في آخر عمره فيصير من أهل السعادة مطيعاً لله ويموت على ذلك، والعكس كذلك.

فليس للإنسان أن يحتج في حال معصيته ويقول: إن الله قدر علي ذلك وجعلني على هذه الحالة، فنقول له: غير أنت من نفسك، وانظر هل سيثبتك الله على هذا الباطل أم لا؟ فأنت ترى نفسك مختاراً وأنت تعمل، وتشعر بأنك مختار، وتؤمن أن الله هو الذي أعانك على رفع هذه اليد، ولكنك تعرف في نفسك أنك أنت الذي تمد اليد وتقبضها، فالله عز وجل قدر أن تمدها وأن تقبضها، وأعطاك في نفسك اختياراً، فاخترت لنفسك المد واخترت القبض، فاخترت أن تسلك طريق السعادة، واخترت أن تسلك طريق الشقاوة، ولا يوجد أحد يعمل المعصية وهو يشعر في نفسه أنه مدفوع ومكره عليها، فعند اختيار العبد يكون تكليفه وجزاؤه وحسابه عند الله سبحانه وتعالى، مع الإيمان بأن كل شيء تحت تقدير الله عز وجل، وقد كتب عنده سبحانه مصير هذا العبد وإلى أي باب يكون، هل إلى باب الجنة أم إلى باب النار؟ فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠] يعني: لقضاء الله وقدره، فلا أحد يقدر أن يتدخل في ذلك فيغير ما كتب عند الله في اللوح المحفوظ سبحانه وتعالى، {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠].

وقد يكون المعنى كذلك أنه من أوامر الله سبحانه ونواهيه، فنقول: إياك أن تبدل في خلق الله! أي: إياك أن تغير أو تتلاعب في الفطر التي فطر الله عز وجل العباد عليها، كأن يقوم الإنسان إلى البهيمة يشق أذنها، والله عز وجل حرم عليه أن يصنع ذلك.

والحق أن الإنسان هو من يغير في خلق الله سبحانه وتعالى، فتجد الرجل يتخنث ويتأنث، وتجد المرأة تترجل وتريد أن تكون كالذكور، (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال).

قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠] فإياكم أن تتدخلوا في خلق الله، وأن تغيروا شيئاً مما خلق الله عز وجل العباد عليه! فيكون على هذا المعنى الثالث نهياً من الله سبحانه وتعالى للعباد عن أن يتدخلوا في الخلق بتغيير أو تحريف لما فطر الله عز وجل عليه الإنسان.

<<  <  ج:
ص:  >  >>