[تفسير قوله تعالى: (إنا كذلك نجزي المحسنين ثم أغرقنا الآخرين)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٨٠ - ٩٦].
ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر أن من أتباعه ومن ذريته إبراهيم الخليل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
وقال في قصة نوح: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:٧٥].
{نَادَانَا} أي: استغاث بنا، ودعانا نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعدما يئس من إيمان قومه، وبعدما كذبوه تسعمائة وخمسين عاماً، فنجاه الله عز وجل وأهله المؤمنين من الكرب العظيم.
قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:٧٧]، فهو أب بعد أب، آدم أبو البشر، وبعده نوح أبو البشر الذين من بعده، وجعلنا ذرية نوح فقط هم الباقين.
قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:٧٨ - ٨٠].
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ} بالثناء الحسن، {فِي الْعَالَمِينَ} فكل من يذكر نوحاً يسلم عليه ويثني عليه خيراً؛ لما صنعه مع قومه من دعاء إلى الله سبحانه، ولما صبر على أمر الله سبحانه.
قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:٨٠] الجزاء الحسن هو الذكر الحسن، والتسليم عليه {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أن يكون لهم عاقبة الدار، وأن يكون لهم الجزاء الحسن عند الله، والذكر والثناء الحسن عند الناس.
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:٨١].
إذاً: الله عز وجل جازاه على إحسانه وإيمانه بأن جعل له الثناء الحسن في هذه الدنيا.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:٨٢] يعني: الكفرة وهم الأكثرون، وما آمن معه إلا قليل، وذكرنا أن الذي بقي معه وركب معه السفينة كانوا ثمانين من المؤمنين.
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:٨٢] وجاء الإغراق عقوبة من الله عز وجل على كفرهم وتكذيبهم، فكانت الأرض تنبع بالمياه، والسماء تنزل بالمياه، والسفينة عامت، وأغرق الله عز وجل الكفار، وكان ابن نوح يظن أنه سيأوي إلى جبل عال مرتفع فيعصمه من هذا الماء، وناداه نوح أن يؤمن ويدخل معه ويركب في السفينة، فأبى إلا الكفر الذي هو عليه، وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:٤٣].
إذاً: صارت الأرض كلها مياهاً، وأمواجاً، فعامت السفينة ورست فوق الأمواج، وبلغت الأمواج علو الجبال فأغرقت ابن نوح، فقال له ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦]، فأهل نوح هم المؤمنون الذين نجاهم الله عز وجل معه في السفينة، وكانوا قليلين من أهله عليه الصلاة والسلام، قالوا: بعض أولاده وحليلات أولاده وأولادهم، يعني: من ذرية نوح المؤمنين الذين ركبوا معه في هذه السفينة، فجعل الله عز وجل منهم الخلق كله بعد ذلك، وأغرق كل الكفار، وصار الناس معتبرين لما حدث في قوم نوح، وكان بين نوح وإبراهيم فترة طويلة تتجاوز الألفين من السنين، وفي خلال هذه الفترة كان عدد الرسل الذين ذكر الله عز وجل رسولين اثنين فقط، والله أعلم هل كان يوجد غيرها من الأنبياء؟ لكن الذي ذكر الله عز وجل في القرآن بين نوح وبين إبراهيم هما هود وصالح عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.