[تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم)]
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم:٤٣] أمر الله العباد أن يسيروا وينظروا ويعتبروا, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم وجهه لهذا الدين القيم، والأمر له وللمؤمنين معه بالتبع، أي: أقيموا وجوهكم إلى هذا الدين, أقم وجهك واقصد إلى هذا الدين العظيم, أقم قصدك واجعل وجهتك اتباع هذا الدين القيم العظيم دين الإسلام {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:٤٣]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:١٢٥]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد في سبيل الله سبحانه {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:٧٨]، فهو والمؤمنون مأمورون أن يتوجهوا إلى دين الله سبحانه.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم:٤٣] وجه الإنسان أشرف ما فيه، فإذا وجهه إلى شيء توجه بدنه إليه {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم:٤٣] أي: استقم بتوجهك إلى دين رب العالمين سبحانه، وكذلك المؤمنون معك، ووضحوا الحق، وبالغوا في الإعلان إلى الحق, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتغل وينشغل بما هو فيه من دعوة إلى الله سبحانه، ولا يشغل نفسه بالحزن عليهم كما قال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:١٢٧] فهم يمكرون ويمكر الله عز وجل بهم, لكن إذا تفرغ للحزن عليهم فسيضر نفسه كما قال الله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:٣] , وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:٦]، فستقعد تحزن عليهم إلى أن تميت نفسك عليهم, وهم لا يستحقون ذلك، وليست هذه وظيفتك، إنما وظيفتك أنك نذير وبشير، تنذر من يعصي ربه سبحانه, وتبشر من يطيع ويؤمن بالله سبحانه وتعالى، وبلغ {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:٥٤].
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:٤٣] اعمل لهذا اليوم وحذرهم قبل أن يأتي هذا اليوم الذي {لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:٤٣]، من يرده إذا أراد الله عز وجل أن يأتي بيوم القيامة؟ هو آت لا ريب فيه, ولا يرده الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء لا بدعائهم ولا بغيره, فإذا جاء يوم القيامة لا يقدر الإنسان أن يؤخره, ولو دعا ربه لن يؤخره سبحانه وتعالى, فلن يرده الله سبحانه عن موعده, فهو وعد حق من الله، وميعاد محدود من الله، لابد أن يأتي هذا اليوم, ولا يرده أحد، ولو دعا الإنسان ربه سبحانه أن يرده عنه فلن يرده.
وهذه الكلمة (لا مرد له) يقرؤها حمزة بالمد وإن كان ليس فيها همزة، وهذا نوع من أنواع المد للمبالغة في النفي, مثلما قرأ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:٢] فيمد (لا) مبالغة في نفي الشك عن هذا الكتاب, ومن الأشياء اللطيفة في المدود أن القراء الذي يقصرون المد المنفصل مثل {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصافات:٣٥] وهم قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وشعبة عن عاصم وغيرهم، فهم يقصرون المد، فإذا قصروا مدوا في هذه الكلمة (لا إله إلا الله) ويسمونه المد للتعظيم, أي: لتعظيم الله سبحانه, فهم يقصرون كل مد منفصل فإذا جاءوا في لا إله إلا الله مدوا (لا إله إلا الله) للتعظيم, فيجوز عندهم فيها المد ويجوز القصر، وإن كان الأصل فيها القصر مثل المد المنفصل، ولكن يمدون في هذه الحالة للتعظيم, وكذلك يمد هنا حمزة، وإن كان حمزة يمد المد المنفصل والمتصل وغير ذلك, ولكن هذا المد ليس له علاقة بالهمزات، وإنما المد هنا للمبالغة في النفي.
قوله: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)) أي: فلا يقدر أحد أن يرده، ولا يرده الله سبحانه وتعالى عنهم لا بتوسلهم ولا بدعائهم، فلا يرد هذا اليوم إذا جاء.
قال الله: {يَوْمَئِذٍ} [الروم:٤٣] أي: في يوم القيامة {يَصَّدَّعُونَ} [الروم:٤٣] , يقال: تصدع البنيان بمعنى تشقق، فالتصدع هو التشقق والتفتت، ومنه الصداع الذي يصاب به الإنسان، وكأنه يفرق شعب رأس الإنسان, وكأنه سيشق دماغه، فهذا اليوم يصدعون فيه، وهنا التشديد يدل على هم هذا اليوم وعظمه، والأصل فيها يتصدعون, فأدغم وثقل لثقل هذا اليوم الفظيع, نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة, فقال هنا: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:٤٣]، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:١٤]، فالناس يخرجون من قبورهم ويردون إلى الموقف يوم القيامة فيقفون بين يدي الله عز وجل خمسين ألف سنة ثم يتفرقون ويتصدعون, فريق في الجنة وفريق في السعير, فلذلك قال هنا سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:٤٣].