[تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجري في البحر ولا يغرنكم بالله الغرور)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة لقمان: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:٣١ - ٣٣].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات لعباده نعماً من نعمه العظيمة، وما أكثر نعم الله سبحانه! فيقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:٣١]، إن تيسير الانتقال في البحر نعمة من نعم الله سبحانه للعباد، وإذ كان في البحر قد يسر لهم الفلك، فإنه في البر خلق لهم ما يقوم بذات المهمة قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨]، فالله سبحانه يلهم الإنسان، ويرزقه من فضله وكرمه سبحانه، فقد ألهم الإنسان صنع السيارة لتحمله في الأرض، وألهمه صنع الباخرة لتحمله على البحر، وألهمه صنع الطائرة لتسبح به في الهواء، وغير ذلك مما يمن الله عز وجل على العباد فيصنعون، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:٢٢]، فكل ما ينتفع به الإنسان محض نعمة من نعم الله سبحانه، ولا شأن لنا في تسخيره، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:٣١]، أي: ليس بقوتكم، ولا بتسخيركم ولكن الله يسخر ما يشاء سبحانه، وهو الحافظ لها ولو شاء لأوقفها، أو لأغرقها، ولكنه سبحانه يمن على العباد مما يشاء من فضله، ومن نعمه، فإذا بالإنسان إذا وجد نفسه مستغنياً قد أغناه الله سبحانه يستكبر ويتعالى، فإذا بالله سبحانه تبارك وتعالى يذيقه من البلاء ما يجعله يرجع إلى ربه ويقول: يا رب! يا رب! ولذلك لما ذكر لنا النعمة ذكر بعدها النقمة، فذكر ما يحدث للإنسان إذا غشيه موج البحر كالظلل، وذلك لأن الإنسان يحتاج دائماً إلى التذكير، فإذا لم يتذكر بالقول وبالنصيحة، احتاج إلى أن يبتليه الله سبحانه وتعالى، ويذيقه شيئاً من بأسه عله أن يراجع نفسه، ويرجع عن غروره الذي هو فيه.
وقد صنع الإنسان يوماً من الأيام لنفسه الطائرة العظيمة التي تقله كما تقل الجيوش والمعدات، إلا أنه حين يستشعر الكبر والغرور أنه في السماء طائر فوق غيره ويفعل ما يشاء، فإذا بالله يبتليه فيحطم طائرته، ويجعلها سبباً لهلاكه، وفي ذلك عبرة لأهل الأرض بما رأوا ألا تغتروا، كما صنع الإنسان سفينة عظيمة لينتفع بها لكنه لم يطلب المنفعة فحسب؛ بل صنع ما بزعمه أنها تتحدى الأقدار وأسماها (تيتانيك)، أي: الجبارة، جاهلاً أنها قد تغرق، ومبالغة في الزهو يركب على هذه السفينة المليونيرات للنزهة على البحر ناسين الله سبحانه وتعالى، فإذا بها في أول رحلة لها في البحر تغرق بمن فيها، فقد قصمها الله سبحانه وتعالى، وهو قاصم الجبابرة.
فهذه الجبارة التي صنعها الإنسان وظن أنه فاق كل شيء، يريه الله عز وجل ويري جميع عباده من آياته سبحانه وتعالى، فيقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:٣١]، أي: بسبب نعمة الله وقدرته سبحانه.
وكلمة (نعمت) مكتوبة بالتاء المفتوحة، فالجمهور إذا وقفوا عليها يقولون: (بنعمت) بالتاء، والبعض من القراء مثل ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والكسائي إذا وقفوا عليها يقولون: (بنعمه) بالهاء.
وقوله: {لِيُرِيَكُمْ} [لقمان:٣١]، اللام للتعليل، أي: أنه يجري السفن في البحر ليريكم من نعمه سبحانه، ويريكم من آياته العظيمة الباهرة، وقدرته الفائقة القاهرة.
والآية: العلامة، وقد تأتي بمعنى: المعجزة، وقد تعرف بأنها: الشيء العظيم الذي ينظر فيه الإنسان فيقول: سبحان الله ما أعظم هذا! وعادة ما يعجب الإنسان حينما يرى سفينة تطفو على البحر، لكنه قد لا يتذكر الله حين يراها، فلذا الله عز وجل يذكره: أن لست أنت الذي خلقت هذا البحر، ولا أنت الذي أجريت هذه الرياح، ولا أنت الذي تمكنت بفضل نفسك من صنعها، ولكن الله من عليك بهذا كله سبحانه وتعالى.
ثم بين سبحانه من يستفيد من الآيات فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:٣١]، أي: علامات يعتبر بها كل صبار شكور، وقوله: (صبار) مبالغة من صابر، أي: صبر على قضاء الله وقدره، وصبر نفسه فنظر في آيات الله واعتبر بها، وعلم أن الله هو صاحب الفضل العظيم، وهو الذي من على الإنسان بكل نعمة، فالإنسان الصبار هو الذي ينظر بصبره ويتأمل فينتظر قضاء الله سبحانه، ويشكر ربه على نعمه سبحانه، فيصبر في البلاء، ويشكر في الرخاء.
وإنما خصت الآية هذا الإنسان لأنه هو الذي يعتبر بها، أما غيره فلا يعتبر حتى يكون هو العبرة لغيره، فنرى الإنسان المستكبر لا يعتبر بآيات الله سبحانه وتعالى، ويظل مستكبراً إلى أن تأتي الآية فتقصمه فيكون عبرة لغيره، ويتحدث عنه الناس ويصبح حديثهم، فمن شامت يذكر ما كان يفعل من أفعال تدل على الكبر كالتطاول والاستكبار، ومن معتبر بما صنع به قاصم الجبابرة سبحانه وتعالى، وكيف أرى الله العباد فيه آية من آياته سبحانه وتعالى، فقد أراهم كيف صنع بفرعون الذي استخف قومه فأطاعوه، وكانوا يظنون أن فرعون من المخلدين، فقد أعطاه الله من العمر والقوة والملك الشيء العظيم، فلما استخف قومه وقال: أنا ربكم الأعلى، وأطاعوه فيما قال؛ أغرقه الله سبحانه، وأذله وهو خارج أمام الناس بجيوشه ليأتي بموسى ومن معه، وقد قيل: إن عدد من كان مع موسى ستمائة ألف، وقيل أكثر، وقيل أقل من ذلك، والله أعلم، فلما نظر إليهم فرعون أخذ يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:٥٤] ففهم من قوله أن جيشه جيش عظيم؛ لأنه إذا كان من مع موسى شرذمة قليلون، وعددهم ستمائة ألف، فإن جيش فرعون قطعاً سيكون أكثر من ذلك بكثير، ولذا نظر إليهم مستكبراً فقال كما أخبر الله عنه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:٥٤ - ٥٦]، فكان الكبر في فرعون هو الذي دفعه لقتالهم، فمع أنهم لم يؤذوا فرعون ولا قومه بأي نوع من أنواع الأذى، وهم فقط إنما آمنوا بالله وكفروا بالطاغوت؛ إلا أن فرعون أبى إلا قتالهم، فإذا بالله عز وجل يملي له لينتقم منه ويكيد به، وهذه هي سنته في المتكبرين قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:١٨٣]، ورأى فرعون أمامه الآية التي يعتبر بها كل من يعتبر، إلا أنه إذا جاء القضاء والقدر عمي عن الإنسان البصر، فلم ينظر إلى البحر العظيم وقد انفلق، وموسى وقومه يمشون في يبس من الأرض، ويؤمن أن هؤلاء على حق، بل قد رأى قبل ذلك تسع آيات بينات في بلاده، ولم يعتبر، وهذا هو ديدن الجبابرة لا يعتبرون حتى يكونوا هم العبرة لغيرهم، فأصر فرعون على المضي خلف موسى، فلما توسط البحر انطبق عليه البحر وأغرقه الله، وحينها قال فرعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:٩٠].
وأصبح عبرة للناس في مقالته، ومثالاً للإنسان الجبان الذي يرى القوة من حوله فيقول: أنا مثل هؤلاء، أنا مع هؤلاء؛ فإن فرعون كان يقول: أنا ربكم الأعلى، وبعد أن أغرقه الله قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:٩٠]، أي: أنا مثل هؤلاء، أنا مع هؤلاء.
ويجيبه ربه فيقول: {آلآنَ} [يونس:٩١] أي: آلآن تقول: آمنت؟ ثم ذكره بمعصيته فقال: {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:٩١]، أي: لقد كنت كافراً مفسداً جباراً عنيداً، ثم يجعله الله عبرة لمن خلفه، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:٩٢].
وهكذا فالجبابرة لا يعتبرون، إنما يعتبر كل صبار شكور، فالذي يصبر على قضاء الله وعلى بلاء الله سبحانه وتعالى، وينتظر الفرج من الله ولا يعاند ربه أبداً، بل يشكر في حال الغنى والرخاء أهل لأن يعطيه الله سبحانه العقل فيتفكر، ويعطيه القلب فيتدبر ويؤمن ويستيقن، ويعطيه النعمة منه سبحانه وتعالى.