[تفسير قوله تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم)]
قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:١٦].
فقوله: {فَأَعْرَضُوا}، أي: أعرضوا عن هذه النعمة التي أعطاهم الله سبحانه، وأعرضوا عن عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:١٦].
فلما كفروا النعمة عجل الله عز وجل بذكر العذاب قبل أن يذكر السبب، وذلك أنهم لما كفروا بنعمة الله استحقوا العذاب.
فقد أعرضوا عن شكر الله سبحانه، وجحدوا نعمته سبحانه.
قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:١٦] أي: السد العالي الذي وراءه الماء العظيم، فهذا السد هدمه الله سبحانه تبارك وتعالى لأسباب عجيبة جداً، فسال عليهم الماء كالجيش العرمرم الشديد الصعب، فأغرق كل شيء وأتلف كل ما أتى عليه، والمقصود بالعرم السد أو السيل، أي: السيل الصعب الذي لا يقدر أحد على منعه ولا على صده، وقد كانت المياه تسيل عندهم بين جبلين، ففكروا ببناء سد للاستفادة من هذه المياه، فبنوا سداً اسمه سد مأرب، ومأرب اسم القرية التي كانت هناك.
وكأن مأرب بمعنى: المياه، أي: سد المياه الذي تجمع المياه خلفه، فبنوا بين الجبلين الذي كان يسيل بينهما الماء سداً، حتى وصلوا بالسد إلى الأعلى قمم الجبال، وهذه من نعم الله عليهم، أن سخر لهم ما يبنون به هذا السد، فارتفع الماء خلف السد حتى بلغ الجبال، فزرعوا الجبال واستفادوا منها أعظم الاستفادة.
فاجتمع لهم الهواء الطيب والنبات العظيم والبساتين المثمرة، فلم يشكروا ربهم سبحانه تبارك وتعالى أن سخر لهم هذا الجبل، وهذا السد، وهذا الماء، فاستحقوا سلب هذه النعمة، فسلط الله عز وجل عليهم من يهدم عليهم هذا السد المرتفع.
فسخر شيئاً عجيباً جداً وهو الجرذ (الفأر)، سخره الله سبحانه تبارك وتعالى وسلطه على هذا السد، فأكل أسفله فانهار السد فإذا بالمياه تغرق كل شيء أمامها.
قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ:١٦] أي: جنتين أخريين بدل البستانين اللذين كانا فيهما من كل الثمرات، ومن كل نعم الله العظيمة.
قال تعالى: {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:١٦] والأكل والأكُل يعني: الجنا.
قرأها نافع وابن كثير: (أُكْل)، بتسكين الكاف.
وقرأها الجمهور: (أكُلٍ).
وقرأها أبو عمرو ويعقوب: (ذواتي أُكُلِ خمطٍ)، بالإضافة إليها.
و (الخمط) كأنه الحامض، يقال: لبن خامط أي: ابتدأ يتغير ولم يصل إلى درجة الحموضة التي لا يقبل معها.
وكذلك الثمار بعدما كانت ثماراً يانعة عظيمة جميلة في طعمها تحولت إلى هذا الشيء العجيب، وأصبح الثمر ثمراً خامطاً أي: فيه طعم الحموضة، فلا يصلح للأكل إلا بمرارته وحموضته وملوحته.
وقوله تعالى: {وَأَثْلٍ} هي: شجر الطرفاء، وهو شجر فيه الشوك.
فبعد الجنات العظيمة أصبحت الأشجار تنبت لهم الشوك، وأصبح طعم النبات والثمار مالحاً وحامضاً بكفرهم وببغيهم.
قال تعالى: {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:١٦] والسدر: النبق.
أي: شجر النبق، فحتى يحصلوا على هذا النبق كانوا يصعدون شجرته العالية حتى يحصلوا على قليل منه، ولا ينفعهم شيئاً.
كما يقال: هذا لحم جملٍ غث على رأس جبل وعر، لا سمين فينتقى ولا سهل فيرتقى.
أي: لا اللحم سمين حتى نذهب إليه، ولا الجبل سهل فنرتقي عليه.
وكذلك هؤلاء أبدلهم الله عز وجل بهذا بعد الثمار الطيبة التي كانوا فيها قبل ذلك.
فضاع كل ذلك وصاروا إلى ما صاروا إليه بكفرهم.