تفسير قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً)
يقول الله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:٢٣].
كما أنزل الله المطر من السماء ليبين قدرته سبحانه تبارك وتعالى، فالمطر ينتفع به الخلق فتحيا به أرضهم ونباتهم والقرآن أعظم من ذلك، وهو أنزل من السماء نزل به الروح الأمين على قلب النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ليكون من المنذرين، فانتفع المؤمنون فآمنوا وصدقوا وعملوا بما فيه.
والقرآن أحسن الحديث، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:٣]، وفيه أحسن الأحكام وأجملها، جاء عن سعد بن أبي وقاص أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لرسول صلى الله عليه وسلم: (لو حدثتنا)، وأحياناً الإنسان قد يحدث له شيء من الملل فيحتاج من يذكره، فالصحابة يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو حدثتنا -أي: سليتنا قليلاً بحديث- فأنزل الله سبحانه تبارك وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:٢٣]) أي: لستم محتاجين أن تتسلوا بقصص وحكايات، فالقرآن فيه أحسن الحديث.
وفرق بين سماع الآيات القرآنية وسماع الأحكام الفقهية، فعندما تقرأ كتاب فقه أو أصول فقه فإنك تمل، والقرآن لا يمل جليسه أبداً، والقرآن العظيم ليس مجرد كتاب قصص أو تاريخ أو فقه، بل هو كتاب قائم بذاته ونسج فريد لغيره من الكتب.
والقرآن تقرأ فيه الموعظة وبعد قليل يذكرك بالجنة ويحذرك من النار ويعطيك حكماً من الأحكام ويذكرك بالأمم السابقة وبنبي من الأنبياء وبحادثة من الحوادث التي كانت موجودة، فما يزال يدخلك في شيء ويخرجك منه من غير ما تشعر بالخلاف، ولو تقرأ كتاب فقه ثم كتاب حديث ثم كتاب أصول فقه ثم كتب قصص، فقرأت في هذا قليلاً زهقت منه وتركته وأتيت بالثاني، فتحس أنك خرجت من شيء إلى شيء آخر، أما القرآن فلا تستشعر بذلك فتجد السورة تتناول أشياء كثيرة وتخرجك من شيء إلى شيء آخر، وحسن السياق الذي في القرآن هو حسن الخروج من الشيء والدخول في الشيء الثاني من غير أن تشعر أنك خرجت من شيء ودخلت في شيء آخر، فهناك فرق بين هذا وذاك.
فلا يمل قارئ القرآن أبداً، وكلما قرأه ازداد إقبالاً على القرآن، وهذا القرآن عجيب فأول ما تقرأ الآيات في البداية تشعر أنك ما زلت لم تدخل ثم تجد نفسك داخله في شيء حتى تستشعر بشيء عجيب جداً فيشدك القرآن فلا تريد أن تتركه.
انظر وأنت تصلي التراويح وراء الإمام وتتأمل في معاني القرآن، دعك ممن يصلي ودماغه ليس في القراءة، فليس هذا الذي نتكلم عنه، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:٢٤]، فعند تدبرك للقرآن فإنك لا تمل منه، فإذا ركع الإمام تريد أن تسمع أكثر، فلا تمل أبداً من القرآن.
فالقرآن العظيم أحسن الحديث، وأعظم الكلام، ولا أدل على ذلك من العرب الذين استمعوا إليه، ولم يرفضوا القرآن لأنه لا يعجبهم، إنما رفضهم للقرآن كان لحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الكلام العظيم الجميل ينزل عليه وحده دون غيره، ولذلك يقول زعيمهم الوليد بن المغيرة عن هذا القرآن: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، فلما قال ذلك قال له الكفار: ستجعله يتمسك بالذي هو فيه، فقد سحرك يا ابن المغيرة وفعل بك كذا، فما زالوا وراءه إلى أن فكر بماذا سيرد على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:١٨ - ٢٥].
وذلك لأن الكفار أحرجوه أشد الإحراج، إذ قال أحدهم: إني تركت قومك وهم يجمعون لك مالاً، قال: ولم يجمعون لي ذلك وقد علموا أني أغناهم؟ قال: لأنك تريد أن تتابع محمداً صلى الله عليه وسلم حتى يعطيك المال! فهذا الذي جعله يأنف ويستكبر فرجع عن كلامه وما زال يفكر حتى قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٤ - ٢٥].
أي: هذا كلام سحر وكلام قول البشر، ولكن لا يضرنا ما قاله هذا الكافر فقد ذهب للقاء ربه سبحانه ولجزائه الذي يستحقه، ولكن ما قاله في البداية كان هو الحق.
وكان أبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من الكفار يذهبان ليستمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذا القرآن، لذلك فالمؤمن يكفيه هذا الحديث العظيم كتاب رب العالمين.