[تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها)]
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:٦١] رجع في الكلام إلى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقد أنعم الله عز وجل عليه وسيذكره بنعمته عليه، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة:١١٠] فهذه نعم من الله عز وجل أنعم بها على المسيح عليه الصلاة والسلام وعلى والدته، فقد جعله يكلم الناس وهو صبي صغير، لماذا؟ ليدعوهم إلى الله عز وجل ويمنعهم من أن يسيئوا الظن بأمه؛ لأنها ولدت طفلاً من غير أن تتزوج؟ فإما أن يقولوا عنها أنها بغي، وإما أن يجعل الله عز وجل لها آية من الآيات تصدقها، فكانت الآية أن يتكلم وهو في المهد صبيا، فهذه نعم من الله عز وجل على المسيح وعلى أمه عليهما السلام.
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:٦١] أي: علم من الله عز وجل لكم يعلمكم به أن خروجه دلالة وإشارة وعلامة على قرب القيامة، فمن أشراط الساعة نزول المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فقد رفعه الله عز وجل {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:٥٥] أي قابضك وافياً، {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:٥٥] فمن يتبع المسيح عليه الصلاة والسلام على توحيد الله عز وجل فوق الذين كفروا فإذا نزل المسيح يوم القيامة كان أتباعه هم المؤمنون أهل دين النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء هم الذين يتبعونه فيكونون فوق الكفار إلى أن تقوم الساعة.
إذاً: نزول المسيح من السماء من أشراط الساعة ومن علامات الساعة الكبرى.
{فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:٦١] أي: فلا تشكن في هذه الأشراط فإذا جاء أشراط الساعة انفرطت هذه الأشراط كعقد انفرطت جواهره يتوالى ظهورها علامة وراء علامة.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا المعنى منها ما رواه ابن ماجة ورواه الإمام أحمد أيضاً بإسناد رجاله ثقات وفيه رجل وهو جبلة بن سحيم يروي عن مؤثر بن عفازة ومؤثر بن عفازة وثقه ابن حبان وقال الذهبي: وثق، في الحديث عن ابن مسعود (لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعة فبدأوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى بيت المقدس فلقي الأنبياء وذكرنا في هذه السورة أن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:٤٥].
فالنبي صلى الله عليه وسلم لقي الأنبياء في بيت المقدس، وصلى بهم صلوات الله وسلامه عليه وتكلم معهم هنالك ثم لقيهم بعد ذلك في السماوات في السماء الأولى وفي الثانية والثالثة على ما ذكرنا قبل ذلك في الحديث.
والغرض أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا الساعة (فبدأوا بإبراهيم فسألوه عنها فلم يكن عنده منها علماً، ثم سألوا موسى فلم يكن عنده منها علماً، فرد الحديث إلى عيسى ابن مريم فقال: قد عهد إلي فيما دون وقتها، فأما وقتها فلا يعلمه إلا الله) أي: الوقت الذي تقوم فيه الساعة وقت النفخ في الصور الذي سيهلك الله عز وجل به جميع من في الأرض هذا الوقت لا يعلمه إلا الله، لكن أشراطها قد أعلم الله عز وجل المسيح لأنه أحد أشراط هذه الساعة.
قال عليه الصلاة والسلام: (وذكر خروج الدجال قال: فأنزل فأقتله) فسيخرج المسيح الدجال ويزعم للناس أنه إله، ويطلب منهم أن يعبدوه، فمن تبعه وأكثر أتباعه هم اليهود والمنافقون، أعطاهم من الأموال وسيفتح الله عز وجل عليه من كنوز الأرض فتنة لهم، ومن كفر به وكذبه سيضيق عليه هذا في الظاهر حتى ينزل المسيح على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، (قال: فأنزل فأقتله، فيرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون).
والدجال وعيسى كل واحد منهم اسمه المسيح والفرق بين الاثنين، أن المسيح عيسى ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام طهره الله سبحانه وتعالى وذاك المسيح الدجال الذي جعل الله عز وجل عينه كالعنبة الطافئة فهو أعور العين، وقد جعله الله عز وجل آية من الآيات، وجعل قبحه علامة على ما يفعله وما يقوله وعلامة للناس ليحذروه، وكتب على جبينه ثلاثة أحرف كفر، هذه الأحرف الثلاثة يقرأها كل إنسان مؤمن يعبد الله سبحانه وتعالى حتى وإن كان لا يقرأ ولا يكتب.
وبعد أن يقتل المسيح ابن مريم المسيح الدجال قال: (يرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فلا يمرون بماء إلا شربوه) ويأجوج ومأجوج قبيلتان عظيمتان، من أسوأ خلق الله عز وجل، يخرجون على الناس قد حبسهم الله سبحانه وتعالى لما طلب من ذي القرنين أن يبعدهم عن الناس فأعانه الله عز وجل فجعل بين الناس وبينهم سداً وسيخرجون عند قيام الساعة.
قال: (فلا يمرون بماء إلا شربوه ولا بشيء إلا أفسدوه فيجأرون) أي: يصيح الناس بالدعاء إلى الله، قال المسيح عليه الصلاة والسلام (فادعو الله أن يميتهم قال: فتنتن الأرض من ريحهم)، ومعناه أن عددهم ضخم جداً مما سيجعل رائحة الأرض كلها منتنة، قال: (فيجأرون) يعني الناس إلى الله قال المسيح: (فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم فيلقيهم في البحر ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم فعهد إلي، متى كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل التي لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها)، أي: أنه بعدما يزيل الله عز وجل آثار يأجوج ومأجوج، ينزل من السماء مطراً فيذهب بهؤلاء، ويلقي بهم في البحر، وتصير الأرض نظيفة طاهرة، وإذا بالله عز وجل يأمر فتفتت الجبال وبعد أن كانت الأرض منها الأمت ومنها العوج تصير الأرض قطعة واحدة، وتمد الأرض مد الأديم، أي: أنها تصير كالسجادة مستوية جميعها، قال (فعهد إلي) يعني المسيح عليه الصلاة والسلام (متى كان ذلك كانت الساعة من الناس كالحامل التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها).
أي: فإذا جاء هذا الأمر انتظر الناس قيام الساعة كأهل الحامل الذين ينتظرون متى تولد وفي رواية الإمام أحمد قال: (لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلاً أو نهاراً).
وفي حديث آخر رواه أبو داود بإسناد صحيح ورواه الإمام أحمد أيضاً وهذا لفظ أحمد عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى)، إخوة علات أي: ضرائر فالأنبياء إخوة لأب وليس هذا هو المقصود ولكن المقصود أن الدين واحد، أي: أن دين الأنبياء كلهم وإن اختلفت أحكام شرائعهم في تحليل أشياء، والتشديد على الناس بأشياء، ولكن الدين في النهاية الذي يدعون إليه هو توحيد الله سبحانه.
قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لإنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل) فهيئة المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام أنه رجل ربعه من الرجال، أي: وسط من الرجال، لا طويل بائن، ولا قصير شائن، إلى الحمرة والبياض: يعني منظره أبيض مشرب بحمرة، سبط: يعني شعره ناعم وهو غزير العرق كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، قال (بين ممصرتين)، وذكر في حديث آخر (بين ممشقتين وبين مهروجتين) معناه: أنه لابس ثوبين مصبوغين أقرب إلى الحمرة، قال: (فيكسر الصليب) هذا فعل المسيح عليه الصلاة والسلام.
(فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية)، أي: أنه لا يقبل الجزية من أحد بل لا يقبل إلا الإسلام، قال: (ويعطل الملل حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها)، فلا يكون هناك نصرانية ولا يهودية ولا مجوسية ولا بوذية ولا يبقى إلا الإسلام فقط؛ لأنه الدين الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده، قال: (غير الإسلام) ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب.
وتقع الأمنة في الأرض، أي: الأمان في الأرض (حتى ترتع الإبل مع الأسد) أي: أن الجمال ترتعي مع الأسود، قال: (جميعاً والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضاً فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يتوفى)، أي: يموت الموتة التي كتبها الله عز وجل عليه، قال: (فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه).
إذاً: سينزل المسيح؛ لأنه رفع ولم يمت عليه الصلاة والسلام، فينزل ليموت على الأرض ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، هذه بعض الآثار الواردة في هذا المعنى.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.