للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (فنظر نظرة في النجوم)]

قال الله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات:٨٨] عليه الصلاة والسلام، وكان قومه أهل نجوم ينظرون في النجوم ويتكلمون بالطالع أنه يحصل كذا وسيحصل لنا كذا وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يتعامل مع قومه بشيء من الذكاء العظيم الذي وهبه الله عز وجل له، فيوهمهم بالشيء الذي يقصد خلافه حتى ينفذ ما يريد عليه الصلاة والسلام، لما كان مع عباد الكواكب والنجوم دعاهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى ليعبدوه، فإذا بهؤلاء يعبدون الكواكب والنجوم من دون الله سبحانه، فقال لهم: ما الذي تعبدونه؟ قالوا: نعبد هذه الآلهة، فنظر إلى هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله فظهر كوكب فقال: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام:٧٦] هو هذا الإله الذي تعبدونه من دون الله وتدعونني إلى عبادته؟! {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:٧٦] الذي يطلع ويختفي هذا لا ينفع أن يكون إلهاً، فلما بدأ القمر بعد ذلك بارزاً ومنيراً {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:٧٧] في زعمكم، فهذا أكبر من الأول، فيكون هذا هو الرب {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَاَلَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} [الأنعام:٧٧] الحقيقي {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:٧٧ - ٧٨] هي أكبر شيء، إذاً هذا ربي، وهذا ليس اعتقاداً من إبراهيم، فالمقام ليس مقام نظر أي: أنه يفكر ويبحث عن إله، لا، وإنما المقام مقام مناظرة، وفي المناظرة يتنزل الخصم مع خصمه، كما تجادل شخصاً فتقول: لو فرضنا أن الذي تقوله صحيح، وأنت معتقد تماماً أن الكلام الذي يقوله غلط، فهذا تنزل في المناظرة، فهذا كان من إبراهيم مناظرة وليس نظراً، يتنزل معهم حتى يقنعهم بأنهم على باطل، فقال: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:٧٨] يعني: بزعمكم الذي تقولونه، {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:٧٨].

إذاً: تدرج معهم بشيء وراء شيء، فلو قال لهم من البداية: هذا كله باطل لا يسمعون منه، ولكن أحب أن يستدرجهم حتى يصلوا في النهاية أنه فعلاً لماذا اختفى الأول والثاني والثالث؟ إذاً: لا تنفع هذه الآلهة، فهذا من إبراهيم مناظرة لقومه، وكم له في ذلك من أشياء.

وانظروا إلى مناظرته مع النمرود عندما قال: إنه الرب، وهو الذي يحيي ويميت، إبراهيم يقول: ربي الذي يحيي ويميت، قال: وأنا كذلك أحيي وأميت، قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:٢٥٨] أعطى خصمه أدلة أمام الأعين لا أحد يقدر يجادل فيها، فهو لما قال: أنا أحيي وأميت أحكم على اثنين بالإعدام فأقول لأحدهما: عفوت عنك وأقتل الثاني، فأنا أحييت هذا وأمت هذا، فالناس سيصدقونه فيما يقول من كلام فارغ، فإبراهيم أعطاه الشيء الذي لا يعرف كيف يناقش فيه، فقال له: أنت تدعي هذا الشيء فهذه الشمس تطلع من هنا فائت بها من هنا، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٥٨].

فإبراهيم عليه الصلاة والسلام آتاه الله عز وجل ما يجادل به قومه، ويقنع بكلامه، وإن كان كفرهم يطمس على قلوبهم فلا يعقلون ولا يهتدون.

قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} [الصافات:٨٨] كهيئة المتفكر، وكأنه ينظر الأمر وهو يريد حيلة ليقعد في دار الأصنام فيكسرها، فهم لن يتركوا إبراهيم وهو على خلاف ما يقولون، إذاً دبر حيلة مع هؤلاء، فنظر في النجوم كهيئة المتفكر ثم عندما قال: (إِنِّي سَقِيمٌ) فظنوا أنه نظر في النجوم فتنبأ أنه سيمرض غداً قال: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩]، فأوهمهم أنه سيأتيه مرض معدي فيخافون ويتركونه {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:٩٠]، لئلا يعدينا بمرضه، فهم كانوا خارجين إلى عيد لهم وأرادوا أخذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام معهم في عيدهم لعله يقتنع بما هم فيه، ويترك ما يدعوهم إليه، وأراد هو أن يمكث في يوم العيد وهم يخرجون فيأتون بطعامهم ليجعلوه في دار الأصنام لأجل أن تأتيها البركة من هذه الأصنام، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: {إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:٨٩ - ٩١] يستهزئ ويستهين بهذه الآلهة، الأكل متروك أمامكم لماذا لا تأكلون من هذا الطعام؟ وضعوا الطعام أمام الآلهة وهم يعرفون أن الآلهة لا تأكل ولا تشرب، وأنها كذب وزور، يفترون على الله الكذب! وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] هذه واحدة من ثلاث كذبات كذبها إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حياته كلها، ومن من الناس لا يكذب في حياته إلا هذا العدد؟! وإبراهيم معصوم عليه الصلاة والسلام، والله أذن له في ذلك، وكلامه كان تعريضاً، وظاهر الكلام أنه كذب، قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] وليس مريضاً، ولكن الإنسان عندما يقول: إني مريض يحتمل أنه مريض مرضاً عضوياً أو مرضاً نفسياً أو أن بقلبه علة من شؤم هؤلاء وكفرهم، إذاً: ضاقت نفسه وقلبه عن ذلك، أو {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] كقوله الله سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠]، لما كان الموت آتٍ آتٍ وأتى أمر الله قال لنبيه وهو على الحياة: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:٣٠] يعني: إنك ستموت، وقال إبراهيم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] يعني: سأمرض، ومن الأمراض التي يبتلى بها الإنسان مرض الموت، فينزل في كل إنسان قبل موته ذلك أو بحسب ما يريد الله سبحانه، فكأنه قال: إني سأمرض موهماً لهم بأنه نظر في النجوم فأخبرته بذلك، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩].

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين وهذا لفظ مسلم - أنه قال: (لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتان في ذات الله قوله: (إني سقيم)، وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وواحدة في شأن سارة) أي: زوجته.

وحقيقة هذا الذي فعله كان تعريضاً أذن الله عز وجل له في ذلك، فعرض في الكلام فأوهمهم بالشيء الذي هو خلاف الواقع، فلما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:٨٩] أي: إني سأمرض، سينزل بي الموت، فظنوا أنه سيمرض بالطاعون ففروا منه مدبرين وتركوه ومرضه عليه الصلاة والسلام.

والمرة ثانية: لما كسر الأصنام وسيأتي ذلك {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:٦٣]؛ ليعرض عليهم إن كانوا هؤلاء ينطقون، ويأكلون ويشربون، إذاً الذي فعل هذا الشيء هو كبيرهم، ولكن أنتم تعرفون أنهم لا يأكلون ولا يشربون فلم يفعل الكبير شيئاً، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:٦٣]، وهذا الذي قاله إبراهيم كان في ذات الله عز وجل.

المرة الثالثة: وإن كانت في ذات الله ولكن لنفسه فيها حظ وشأن، وهي في سارة زوجته.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدم إبراهيم أرض جبار ومعه سارة)، قدم إبراهيم أرض في مصر مهاجراً، قال: (وكانت أحسن الناس) يعني: كانت سارة أجمل النساء، (فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك).

فإبراهيم عليه الصلاة والسلام خاف من الجبار، وهو فر من الجبابرة الذين أرادوا إحراقه وجاء إلى مصر، فإذا بالجبار يعلم أن معه امرأة من أجمل النساء فأراد أن يأخذ امرأته، فلو قال: هي زوجتي لقتله وأخذها، فكأنه دافع عن نفسه بهذا الذي قاله معرضاً: أختي، ويعني: أختي في الإسلام، فهي زوجته وأخته في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، (فلما دخل أرض هذا الجبار رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك) هؤلاء وزراء السوء! قالوا له: امرأة دخلت الديار ما ينبغي في جمالها إلا أن تكون لك أنت (فأرسل إليها فأتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه -على هذا الجبار- لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة).

إبراهيم قائم يصلي يدعو ربه ويستغيث به، وهي قامت تتوضأ وتصلي وتدعو ربها سبحانه، فإذا بالجبار يبسط يده إليها فيشل الله عز وجل يده وتقبض قبضة شديدة (فإذا به يستجير بها) هذا الملك يستجير بـ سارة ويقول لها: (ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت) ما صدق (فعاد مرة ثانية وأراد أن يأخذها فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فإذا بالله عز وجل يرسل عليه ما يصعقه ويغط برجله) ليقع على الأرض صريعاً يخبط برجله، وتقبض يده قبضة شديدة لا يقدر على تحريكها، (فقال لها مثل ذلك مرة ثانية ومرة ثالثة فعلم أنه لن يقدر عليها فقال ونادى من معه: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان)، قال للذين نصحوه بها: ما أعطيتم لي إنساناً، أعطيتم لي شيطاناً، وكأنه من خوفه منها أهدى لها هاجر، فأعطاها هاجر فكانت هاجر من مصر، وكانت لهذا الجبار فوهبها لها فكانت أمة لـ سارة وسارة وهبتها بعد ذلك لإبراهيم، فجامعها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكان منها إسماعيل، وكان منها أبناء إسماعيل، وكان م

<<  <  ج:
ص:  >  >>