[تفسير قوله تعالى: (وإذا غشيهم موجد كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين)]
ذكر الله الناس بالأوقات التي تمر بهم فيلجئون إليه فيها قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:٣٢]، قوله: (إذا غشيهم) أي: غطاهم، والموج هياج البحر، وقوله: (كالظلل) الظلل: جمع ظلة، والظلة: ما يغطي الإنسان، وقد يطلق لفظ الظلل على السحابة، كما يطلق اللفظ على الجبال؛ لأنها أعلى من الإنسان فتظله، والمعنى: أنهم إذا دخلوا البحر وعلتهم الأمواج كالجبال، عرفوا أن الله حق، ورجعوا إليه، ونادوه: يا رب! يا رب! قال تعالى في سورة يونس: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:٢٢].
فإن الإنسان يستكبر وهو بعيد عن الهلاك، ويظن نفسه بمنأى عن عذاب الله سبحانه، فإذا جاءه العذاب رجع إلى الله، وقد صور الله سبحانه وتعالى لنا هذه الصورة الصادقة العظيمة التي لم يرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد معه من العرب ليدل ذلك على أن القرآن كلام رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذه الصورة التي ذكرها القرآن إنما يعرفها علماء البحار الآن؛ لأنها لا تصور إلا بالطائرات والأقمار الصناعية؛ لأن من كان يصل إلى هذا المكان لا يرجع، فكان الذي عبر عنه الله سبحانه وتعالى رداً على الكفار الذين يقولون: أن النبي صلى الله عليه وسلم ألف هذا القرآن؛ إذ كيف يأتي بهذه الصورة وهو لم يركب البحر صلوات الله وسلامه عليه، ولا رأى أحد من أصحابه ركبوا في مثل هذا المكان، كما أن أحدهم لو كان في هذا المكان لم يرجع! فلم يكن لديهم وسائل تنقذهم من موج على هذه الصورة، فالمحيط العميق الغريق هو الذي يأتي فيه الموج كالجبال من كل مكان، ويسميها علماء البحار الآن الدوامة، ويقرون أنه لا أحد ينجو من الدوامة؛ لأن الموج فيها يأتي من كل مكان، والعادة أن الناظر إلى البحر يرى الموج آت من مكان واحد فقط، أما في الدوامة التي تحدث غالباً في المكان العميق من البحر فإن الموج يأتي من كل مكان، ويحيط بالإنسان حتى يغرق، سواء كان الإنسان في مركب صغيرة، أو كان في سفينة كبيرة، فإنه ما دام دخل في هذا المكان فلا بد أن يغرق.
فإذا بالله يصور هذا المكان الذي يغرق فيه الإنسان ولا يرجع ليحدث بما وقع له، ويذكر الله عز وجل أنه في هذا المكان يظل الناس يرددون: يا رب! يا رب! يا رب! وقد يأخذهم الله عز وجل ويغرقهم سبحانه، إلا من يشاء فينجيهم على الندرة، وقد ذكر تعالى مدى إخلاصهم في الدعاء فقال: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:٣٢]، وقد كان هذا سبب إيمان عكرمة بن أبي جهل ابن فرعون هذه الأمة، أبي جهل لعنة الله عليه، فقد كان عكرمة على دين أبيه وقومه، وكان بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يطيق أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة هرب وترك مكة، يريد ألا يرى النبي صلى الله عليه وسلم، فركب البحر، فلما كان في البحر إذا بالأمواج تعلو، وإذا بالسفينة تضطرب، وشعر كل من في السفينة أنهم سيغرقون، فقال لهم ربان السفينة: إنه لا ينجيكم الآن إلا الله، فاتركوا آلهتكم هنا.
وإذا بالإيمان ينسل في قلب هذا الرجل الذي كان كافراً فيفكر: سبحان الله! إن الذي ينقذنا الآن في هذا الضنك الذي نحن فيه والكرب الذي نحن فيه هو ربنا، ونحن نظل ندعو غيره لا والله، لئن أنجاني الله من هذا الأمر لأرجعن، ولأؤمنن، ولآتين النبي صلى الله عليه وسلم، ولأضعن يدي في يده، ولأجدنه رءوفاً رحيماً، فكانت هذه اللحظة سبب إيمان هذا الرجل.
قوله: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [لقمان:٣٢]، أي: تاركين لكل الآلهة، متوجهين بالعبادة له وحده، والإخلاص من أخلص الشيء بمعنى: نقاه وصفاه، فهم أخلصوا عبادتهم من كل شوائب الشرك بالله سبحانه، ودعوا الله وحده، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} [لقمان:٣٢]، أي: كتب لهم النجاة مما هم فيه آمن بعضهم، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان:٣٢].
وقد ذكر الله عز وجل أن العباد أقسام ثلاثة، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:٣٢]، فالسابقون بالخيرات: هم المؤمنون المحسنون، والظالم لنفسه: الكافر، والفاجر، والفاسق، وأما المقتصد فهو الذي يمشي في طريق الخير ويقع في شيء من الفساد والشر.
فقد سمى الله بعض الناجين مقتصدين فقال: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان:٣٢]، ومعنى مقتصد هنا أي: يوفي بما عاهد الله سبحانه وتعالى عليه، وقيل: مقتصد أي: أنه يرجع لطاعة الله سبحانه، وإن لم يكن مثل السابق بالخيرات الذي آمن أول الأمر ولم يحتج لمثل هذا الشيء حتى يتذكر ربه سبحانه، بل إنه متذكر لربه دائماً في الخير وفي الضير يشكر الله، ويحمده سبحانه.
ثم بين الله أن من يجحد بآيات الله ونعمه هو المتكبر فقال: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:٣٢]، فالذي يجحد آيات الله وهو يراها في البر، وفي البحر، وفي نفسه هو الختار، والختار من الختر وهو أسوأ الغدر، والمعنى: الإنسان الذي فيه غدر وعري قلبه من الخير، فهو يرى النعمة وينقلب من ورائها، وإذا أمنه الإنسان على نفسه فقد يمكر به ليغتاله ويقتله.
ولم يسمه الله سبحانه بالغدر فحسب بل وسمه بالكفر أيضاً فقال: {خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:٣٢] والكفور بمعنى: جحود لآيات الله سبحانه وتعالى.