ولما ذهب يونس من عند قومه ركب السفينة فلجت بهم وخافوا أن يغرقوا فتساءلوا فيما بينهم، فقال أحدهم: إن معنا عبداً آبقاً من ربه، وإنها لا تسير حتى يلقى في البحر، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقالوا: والله لا نلقيك، فاقترعوا مرة ثانية وثالثة وفي كل مرة تقع القرعة عليه، فألقى بنفسه في البحر، قال الله عز وجل:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}[الصافات:١٣٩ - ١٤٠]، أي: المملوء، {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}[الصافات:١٤١] يعني: ساهم في القرعة، فهم لما وجدوه نبياً معهم ويقول لهم: ارموني في البحر، بعد أن وقعت القرعة عليه، رفضوا إلقاءه في البحر حتى كرروا القرعة ثلاثة مرات، فألقى بنفسه في البحر، فالله سبحانه وتعالى سلط حوتاً يلتقمه، {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}[الصافات:١٤٢] أي: وهو آثم؛ لأنه عمل عملاً يلام عليه، ولو كان غيره لما كان يلام على ذلك، لو أن أحد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ذهب إلى قوم يدعوهم فرفضوا أن يقبلوا دعوته فخرج من عندهم إلى غيرهم كان مثاباً على ذلك ومأجوراً، لكن هذا نبي من أنبياء الله، والأنبياء مراتبهم عالية، وقد يكون الشيء من غيرهم حسنة ويكون منهم سيئة، ولذلك قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ لأن درجات هؤلاء المقربين عالية، فقد يكون منهم الشيء يعد عند الله عز وجل إساءة ويكون من غيرهم إحساناً وليس إساءة.
فهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لامه الله عز وجل؛ لأنه خرج بغير إذنه عز وجل.
قال تعالى:{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصافات:١٤٢ - ١٤٤] أي: لبقي في بطن الحوت إلى قيام الساعة، ولكن الله عز وجل رحمه بتسبيحه؛ لأنه كان كثير التسبيح وكثير الصلاة وكثير الذكر لله سبحانه وتعالى، فنفعه ذلك، {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}[الصافات:١٤٥ - ١٤٦].
وهنا يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى أنه نادى في الظلمات؛ لأن الحوت يكون في أعماق البحر، وأعماق البحر تكون مظلمة، والجزء من البحر الذي فيه نور هو مقدار خمسين أو مائة متر من سطح البحر، وتحت ذلك ظلمات البحر.