[تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله)]
قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:٢٩] يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى أن موسى قضى الأجل، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام قضى أكملهما وأتمهما، والأجل الأكمل والأتم عشر حجج، أي: عشر سنين.
ولما قضى موسى الأجل وانتهت الفترة سار بأهله؛ لأن الرجل أحق بأهله، ولذلك يقول العلماء: إن الرجل أحق بأهله أن يذهب بها حيث يشاء في أمر حياته ومعاشه، مع حاجته لذلك، إلا أن يكون شرطاً في النكاح عدم الذهاب بها، فجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج)، فإذا تزوج إنسان من فتاة وأبوها شيخ كبير، وأمها امرأة عجوز، ويحتاجان لخدمتها، فزوجاها من إنسان واشترطا عليه أنها لا تخرج من هذه البلدة التي فيها أبواها؛ فتزوج الرجل منها ثم أراد أن يأخذها إلى بلدة أخرى، فلها شرطها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج).
إذاً: طالما كانن الشرط مع النكاح أو قبل النكاح وفيه مصلحة للمرأة، فلا بد من الوفاء بهذا الشرط.
فموسى عليه الصلاة والسلام لم يشترط عليه الرجل أن البنت تمكث معه، ولكن عشر سنوات وينتهي الأمر، وانتهى الأجل، فسار موسى بأهله و {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:٢٩] إذاً: هو خارج من الشام متوجه إلى مصر فتاه في الطريق عليه الصلاة والسلام، والله يريد ذلك حتى يربي موسى، وكان موسى قوياً شجاعاً عليه الصلاة والسلام، ولكن في النهاية خاف من فرعون ومن معه لما أرادوا قتله، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يملأ قلبه بالتوكل عليه سبحانه وتعالى، وعدم الخوف إلا منه وحده سبحانه وتعالى، فالله يخلق الأنبياء ويربيهم.
ولذلك رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم يوم أن فر عنه الناس يوم حنين، قام وحده صلى الله عليه وسلم يقاتل ويدافع في سبيل الله سبحانه وتعالى، وفي يوم حنين كان جيش المشركين عشرة آلاف من هوازن، وجيش النبي صلى الله عليه وسلم كان اثني عشر ألفاً، وجيش النبي صلى الله عليه وسلم حسب أمر الانتصار لصالحه، فخرجوا للقتال حسراً، أي: ليسوا لابسين دروعاً، وانتظرهم الكفار فوق الجبال، فلما وصل جيش المسلمين رشقوهم بالنبال، وفر الجيش كله، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا سبعون من اثني عشر ألفاً، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يترجل عن ناقته، ويتوجه إلى الكفار، ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه شجاعة منقطعة النظير، إذ إن المطلوب في هذا القتال هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس غيره، ومع ذلك يقول ذلك، وهذا مما خلقه الله عز وجل عليه، ووهبه له سبحانه من الشجاعة العظيمة والقوة العظيمة، حتى كانوا يقولون عنه صلى الله عليه وسلم: إنه أوتي قوة أربعين رجلاًَ صلوات الله وسلامه عليه، يقولون: كنا إذا احمي البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: عندما تشتد المعركة ويشتد القتال يحتمون بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالله هو الذي يربي أنبياءه على الأخلاق العظيمة الفاضلة ويعصمهم سبحانه وتعالى، فأراد الله لموسى بهذه التربية أن يحسن التوكل على الله ولا يخاف إلا من الله سبحانه وتعالى، إذاً: لا بد أن يلاقي موقفاً من المواقف الصعبة التي يثبته الله عز وجل فيها، فمرنه ربه بهذا الليل، فهو في ليل بهيم مظلم وفي برد شديد قاس، وفي مكان تاه فيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإذا به لا يعرف أين يذهب هو ومن معه من أهله، فسار بأهله ولم يعرف الطريق فإذا بالله سبحانه وتعالى يريه ناراً في مكان، قال تعالى: {آنَسَ} [القصص:٢٩] أي: بعد أن كان مستوحشاً استأنس بهذه النار التي رآها من بعيد، وذلك بعدما استوحش من الظلمة، وتاه في الأرض.
قال تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [القصص:٢٩] أي: من جانب الجبل في سيناء عند جبل الطور، كأنه وجد ناراً هنالك، {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:٢٩].
{إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص:٢٩] يأمر أهله أن ابقوا وامكثوا في هذا المكان، وأنا أذهب.
وهنا حكمة من الله أن يذهب وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيترك أهله في مكان ويطمئنهم، ويذهب هو وحده إلى هذه النار، حتى يأتي بخبر أو جذوة منها، فهو يريد أن يعرف أين الطريق، أو يريد شخصاً يخبره عن الطريق.
فقوله تعالى: {آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص:٢٩] أي: طالما أن النار موجودة فلا بد أن أحداً أوقدها، إذاً: سيكون هناك شخص يدلني عن الطريق، وإذا لم أجد أحداً، أجد على الأقل جذوة من النار نستدفئ بها في هذا البرد الشديد في ليل الصحراء القاسي.
وقوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ} [القصص:٢٩] أي: قبس من النار، يعني: قطعة من النار، أو خشبة أشعلها من النار فنستدفئ بها.
{لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:٢٩] لعلكم تستدفئون بهذه النار.
والقراءات في هذه الآية: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه:١٠] قراءة الجمهور.
وقراءة حمزة: (قال لأهلهُ امكثوا) بضم الهاء فيها.
قوله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [القصص:٢٩]، قراءة الجمهور، بسكون الياء في لفظ: ((إِنِّي)).
وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وابن كثير (إنِّيَ آنست ناراً).
ومثلها: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا} [طه:١٠] هذه قراءة الجمهور.
وفي قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر: (لعلِّيَ آتيكم) وقوله: (بخبر أو جذوة من النار) فيها ثلاث قراءات: قراءة عاصم وحده: (جَذوة) بالفتح فيها.
قراءة حمزة وقراءة خلف أيضاً: (جُذوة من النار).
قراءة باقي القراء: (جِذوة من النار لعلكم تصطلون).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.