[تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لإن أمرتهم ليخرجن)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له,, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:٥٣].
في هذه الآيات يذكر الله عز وجل المنافقين وكيف أنهم يقسمون بالله سبحانه وتعالى ويجتهدون في أيمانهم وهم كاذبون، وقد حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعة كل حلاف مهين، فهؤلاء المنافقون كانوا يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكثرون من الحلف، والإنسان إذا وجد نفسه أنه يكذب في الكلام فإنه يؤكد كلامه باليمين حتى يظن به أنه صادق ولا يهتم أن يكذب، فإنه قد امتلأ قلبه بالنفاق، فإذا به لا يهتم بأن يعظم اليمين ويعظم ذكر الله سبحانه وتعالى.
فالمنافق في باطنه الكفر، ويظهر الإسلام بلسانه فلا يهتم أن يحلف صادقاً أو كاذباً، فيحلفون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مجتهدين بأغلظ الأيمان: إنهم لصادقون، كما ذكرهم الله عز وجل وفضحهم في سورة التوبة قال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:٥٦]، فيحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم بالله رب العالمين أنهم من المؤمنين، وربنا يكذبهم (وَمَا هُمْ مِنْكُمْ)، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:٥٣] متى يكون هذا الكلام؟ إذا انتهت الحرب وإذا انتهى القتال، فتظهر شجاعتهم في الكلام فقط فيقولون: نحن مطيعون لما تأمرنا وسنقاتل في سبيل الله، ويجتهدون في الأيمان المغلظة، والحقيقة أنهم لن يفعلوا ذلك ولكنهم قوم يكذبون.
فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكذبون على الناس فإذا جاءوا يوم القيامة كذبوا على الله سبحانه وتعالى، ويحلفون بالله سبحانه إنهم من المؤمنين والله يعلم أنهم كاذبون في الدنيا، ويشهدون بالله إنهم مع المؤمنين والله يشهد أنهم لكاذبون، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١].
فكم كذبهم الله عز وجل في كتابه، وكم فضحهم في كتابه العزيز سبحانه، فهنا من ضمن ما يكذبون به يقول: ((وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم)) يعني: بالجهاد والطاعة (ليخرجن) مطيعين مجاهدين في سبيل الله، فأجاب الله عز وجل وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((قل لا تقسموا)) أي: لا تحلفوا فأنتم كذابون، ثم قال: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:٥٣] وفيها معنيان: المعنى الظاهر منها والقريب: طاعتكم طاعة معروفة، يعني: قد عرفنا دأبكم وعرفنا عادتكم وكذبكم، فطاعتهم باللسان فقط، وأما الحقيقة فهي التكذيب في القلوب، وعدم فعل الذي تحلفون أنكم ستفعلونه، قال سبحانه {لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:٥٣] أي: طاعتكم طاعة معروفة، فهي طاعة باللسان لا يصدقها القلب ولا تصدقها الأفعال.
والمعنى الآخر: أن الطاعة التي يريدها الله عز جل طاعة معروفة، فليست هي التي تصنعون، وإنما هي أن تنفذوا أحكام رب العالمين سبحانه، وقد بين الله عز وجل في القرآن ما هو المطلوب منكم وهو: أن تطيعوا الله، وأن تطيعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأن تفعلوا ما جاء في القرآن، وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالطاعة ليست غائبة عنكم وليست بعيدة منكم وليست مجهولة لكم، فهي أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك معروف عندكم، ولكنكم لا تفعلون.
فالطاعة التي يريدها الله عز وجل معروفة وليست مجهولة فنفذوا إن كنتم صادقين، وأما طاعتكم التي تزعمون فهي أيضاً معروفة وأنها أكاذيب، وأنكم لا تصنعون ما تقولون.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:٥٣] أي: خبير بما خفي في قلوبكم وما خفي من أفعالكم، فالله خبير بما تعلمون من أفعال باطنة تكتمونها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم الله سبحانه ما تعملون فيما بينكم، وما تقولونه وتخفونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الناس.