ثم قال لهم:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}[الأنبياء:٥٧] قالها إبراهيم في نفسه ولكن سمعها البعض الذين شهدوا عليه بعد ذلك.
قوله:{بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}[الأنبياء:٥٧] أي: حين تخرجون إلى عيدكم.
فخرجوا إلى عيدهم وجعلوا الطعام تحت الأصنام لتبركها بزعمهم فإذا بإبراهيم يتوجه إلى هذه الأصنام فيخاطبهن: ما لكم لا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون؟ {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}[الصافات:٩٣ - ٩٤] أي: فأقبلوا على إبراهيم مسرعين إليه، لما جعل هذه الأصنام جذاذاً إلا كبيراً لهم على ما ذكرنا.
فسألوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ فأجاب من سمع إبراهيم:{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ}[الأنبياء:٦٠ - ٦١] أي: أتوا بإبراهيم عليه السلام وسألوه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}[الأنبياء:٦٢ - ٦٣].
فعرض بالكلام الذي فهموا منه أن الذي فعل ذلك هو كبيرهم، وكأنه يقول لهم: هل الكبير يفعل هذا الشيء في الأصنام الصغيرة؟ والمعنى: أنه تعليق بالمستحيل، أي: أن هذا الكبير لو كان ينطق لكان هو الذي فعل ذلك، والحال: أنه لا ينطق، فيكون ليس هو الذي فعل هذا.
أو على تفسير الكسائي ووقفه:(بل فعله، كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون)، وهنا كأنه يرى الوقف على قوله:(بل فعله) يعني: فعله من فعله، أو الذي فعله فعله، فاسألوا الكبير إن كانوا ينطقون، وهم لا ينطقون، فحيرتهم هذه الكلمة من إبراهيم عليه السلام.
وقوله تعالى:{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ}[الأنبياء:٦٤] أي: كأنهم استاءوا قليلاً من عدم تكلم آلهتهم، وكيف تُعبد هذه الأصنام، فرجعوا إلى أنفسهم ثم قالوا فيما بينهم:{إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:٦٤] أي: نحن الذين ظلمنا وأخطأنا بترك هذه الأصنام - التي لا تقدر أن تدافع عن نفسها - من غير حراسة لها، فهنا كأنهم يشهدون على أنفسهم بأنهم على باطل، وكأنهم يقولون: لم تعبدون هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر؟ وقوله تعالى:{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ}[الأنبياء:٦٥] يعني: بعدما استاءوا قليلاً لأن أصنامهم لا تستطيع حراسة نفسها، فكأنهم قالوا: كان المفروض أن نحرسها نحن، ومعنى:(نكسوا): قلبوا.
وقوله تعالى:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:٦٥] كأن المعنى: هذه الأصنام لا تنطق وأنت تعرف ذلك ونحن أيضاً نعرفه، يعني: لست وحدك الذي تعرف ذلك، ولكن نكسوا على رءوسهم كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، كأن العقول ذهبت فلا يفهم أصحابها ما يقولون فيجادلون فيما لا يفهمون؛ لأنه لا عاقل يقول هذا الكلام، فهم يقولون لإبراهيم:(لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)، إذاً: فطالما أنها لا تنطق لماذا تعبدونها من دون الله سبحانه؟! فنكسوا على رءوسهم فإذا بهم لا يفهمون.