[تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا)]
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:١٩] أي: الذي يحب ويتمنى في قلبه أن يشيع أمر الفاحشة ويفشو ويكثر.
والفاحشة هي الأمر المفرط في القبح، والمقصود به جريمة الزنا.
فالإنسان الذي يحب ذلك ويتمنى أن يكون هذا بين الناس أمراً عادياً والناس يفعلونه، فالذي يحب ذلك ولو لم يفعل، ولو لم يعن على ذلك، ولكن يتمنى بقلبه ذلك هذا له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فكيف بالذي يفعلها ويأتيها؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:١٩]، في الدنيا لهم عذاب أليم بإقامة الحد وغيره مما يبتليهم الله عز وجل به في ذلك الأمر، وذلك إذا لم يتوبوا إلى الله سبحانه، وقد رأينا كيف أن الله يبتلي هؤلاء الزناة واللواطين بالإيدز، ويبتليهم بالسيلان وبالزهري وبالهربز وغيرها من الأمراض الفتاكة التي لا يعرفون لها دواءً.
وفي الآخرة العذاب الأليم في نار جهنم، لكنه هنا مقيد في عذاب الآخرة بمن مات مصراً على هذا الذنب، وأما من تاب فيتوب الله عز وجل عليه، والله يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء وأنتم لا تعلمون، فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:١٩].
وقد روى الإمام أبو داود والإمام أحمد أيضاً من حديث معاذ بن أنس الجهني قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمى مؤمناً من منافق بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم) يعني: سمع منافقاً يتكلم في عرض مؤمن من المؤمنين فيرميه بالفاحشة، ويرميه بكلام زور، فحمى عرضه منه وقال له: فلان لا يفعل مثل هذا الشيء، وأنت كاذب فيما تقول، فحمى عرض المؤمن، ودافع عنه، فالله عز وجل يبعث له ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، فلا يدخلها، فإذا مر على الصراط وكاد أنه يهوي بذنوبه إذا بالملك يعدله على الصراط ولا يجعله يقع في نار جهنم.
ثم قال: (ومن رمى مسلماً بشيء يريد شينه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قاله) فالإنسان الذي يسيء الظن في المسلمين فيفتري عليهم، أو يتحدث عنهم بأكاذيب سواء عرف أنها أكاذيب أو لم يعرف كان مصيره ما ذكر في الحديث؛ لأن التحدث في أعراض الناس لا يحل لأحد، وإذا تكلم فإنه يأتي بشهود على هذا الذي يقوله حتى يقبل منه هذا الشيء، فيقام الحد على من رماه بهذه الجريمة.
وإذا كان يتكلم نقلاً للحديث يريد شينه كأن يكون مغتاظاً من شخص فيقول: أنا سمعت الناس يقولون عنه كذا وكذا، يريد شين هذا الإنسان فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يحبسه يوم القيامة على جسر جهنم، فإذا مر على الصراط يحبس فوقه فلا يستطيع أن يمر على الصراط حتى يخرج مما قال، فهو محبوس على جسر جهنم تلفحه النار، ولن يستطيع أن يخرج مما قال؛ لأنه قد قاله في الدنيا.
وكأن المعنى أنه يعذب بذلك في هذا المكان، ويحبس على جسر جهنم حتى يخرج مما قال.
وهذا الحديث حسنه الألباني في سنن أبي داود في الطبعة الثانية.
وقد ذكر هنا الإمام القرطبي حديثاً بهذا المعنى رواه الطبراني وإسناده فيه ضعف، وفيه: (أيما رجل شد عضد إمرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها) وهذا يشهد له الحديث الذي ذكرنا في المعنى.
فأي رجل -وكذلك المرأة- شد عضد إمرئ من الناس في خصومة لا علم له بها، يعني: لقي اثنين يختصمان من الناس فوقف مع واحد على الثاني، فشد عضده وهو لا علم له بشيء ولكن عصبية وتحيز له، وبدأ يتكلم مع هذا ويفتري أيضاً فيقول: أنا رأيته وسمعته، وهو لم ير ولم يسمع شيئاً، فذكر هنا أنه في سخط الله حتى ينزع عنها.
ثم قال: (وأيما رجل حال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقاً) وهذا الحديث إسناده ضعيف لكن له شاهد آخر بهذا المعنى: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره) كأنه يعاند الله تعالى، فربنا يأمر بإقامة الحد، وهذا يرفض ذلك ويمنعه.
قال هنا: (فقد عاند الله حقاً، وأقدم على سخطه، وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله تعالى أن يرميه بها في النار) وهذا الجزء من الحديث الذي ذكرناه حسنه الشيخ الألباني في سنن أبي داود وإن كان ضعفه في ضعيف الجامع الصغير لكنه في طبعة ثانية حسن هذا الحديث.
والحديث الذي عند الطبراني يشهد له ما عند أبي داود وعند الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ بالمعنى نفسه.
فذكر هنا أن الذي يريد أن يشين امرأً مسلماً فيرميه بشيء هو منه بريء، فقال: (كان حقاً على الله تعالى أن يرميه بها في النار، ثم تلا مصداقه من كتاب الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:١٩]).
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.