تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه)
قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:٨] طبيعة عجيبة في الإنسان وهي طبيعة نسيان المنعم سبحانه وتعالى، فالعبد يعطيه الله عز وجل فيحمد الله، ثم يعطيه ثانية فيحمده، فإذا أعطاه ثالثة نسي أن يقول: الحمد لله، ولعله يكتم ذلك ولا يزال يكتم حتى يقول أمام الناس: لم يعطني ربي شيئاً، وأعطى فلاناً ولم يعطني! فتجده ينظر إلى غيره، وينسى أنه يتكلم بلسان ويمشي برجل، ينسى هذه النعم، وينظر لشيء من حطام الدنيا، فإذا أصابه ألم جأر إلى ربه بالدعاء والشكوى، وتذكر ذنوبه؛ فيرجع إلى ربه منيباً إليه.
قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ} [الزمر:٨] أي: ملكه وأعطاه سبحانه وتعالى، {نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:٨] أي: نسي دعاءه السابق بعد كشف الغمة والكرب، ونسي أنه كان يوحد الله سبحانه.
وكان أهل الجاهلية عندهم من ذلك العجب، إذ كانوا في وقت النعمة يشركون، ويعبدون غير الله سبحانه، ويقولون: نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله؛ فإذا نزل بهم الضر رجعوا إلى ربهم سبحانه.
ومن أمثلة ذلك: قصة عكرمة رضي الله عنه لما أن فر من النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وكان أبغض شيء إليه الإسلام، إذ ورث ذلك عن أبيه أبي جهل، واتجه صوب البحر، فلما ركب السفينة هاجت الأمواج، واضطرب البحر، فناداهم ربان السفينة قائلاً: يا أيها الناس! ادعوا ربكم فإنه لا ينقذكم مما أنتم فيه أحد سواه.
فصكت العبارة أذن عكرمة رضي الله عنه، وبدأ يفكر فيما يعبده من الأصنام وأنها لا تنفعه في هذه المصيبة، فقال: والله لئن أنجانا الله من هذا لأرجعن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأضعن يدي في يده فلأجدنه رءوفاً رحيماً.
وفعلاً نجاهم الله سبحانه وتعالى من الكرب، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه بعد ذلك.
كان ذلك سلوك أهل الجاهلية السابقة، أما جاهلية اليوم فقد صارت أشد من الجاهلية في الماضي، ففي الماضي كانوا يدعون ربهم وقت الضر، أما الآن ففي وقت الضر يقولون: يا بدوي! يا أبا العباس! فينسى الله تبارك وتعالى، لا في وقت الرخاء يدعوه، ولا في وقت البلاء يوحده، ينسى ربه ويصرف العبادة لغير الله.
وتجد كثيراً من الناس بدلاً من أن يناجي ربه يقول: يا بدوي، مدد يا فلان.
ماذا يملك له فلان هذا؟! والله سبحانه الذي بيده النفع والضر يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:٦٠] ولم يقل: ادعوا فلاناً، ولا ادعوا فلانة.
في هذه الآية ربنا تبارك وتعالى ينعى على الإنسان ما هو فيه من جحود ونكران لنعم الله سبحانه، وأنه في وقت ضره يذكر، ووقت النعمة ينسى.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر للعباد بأن يكثروا من ذكر الله سبحانه وتعالى، وألا ينسوا ربهم سبحانه فقال: (من سره أن يستجاب له في وقت البلاء فليكثر من الدعاء في وقت الرخاء).
فالإنسان إذا كان في وقت رخائه يكثر من الدعاء، ويكون صوته مسموعاً في السماء، فإذا جاءه بلاء فالله سبحانه وتعالى يكشفه عنه لكثرة ما كان يدعو قبل ذلك، فهو يدعوه في الضراء وفي السراء.
أما الذي لا يذكر ربه إلا في وقت النقمة ووقت البلاء فهذا لا يستحق كشف بلائه إلا أن يتغمده الله عز وجل برحمته.
فإذا أردت أن يستجيب الله لك ويكشف ما ينزل بك من الشدة فأكثر من الدعاء في وقت رخائك يستجب لك في وقت بلائك.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.