[من صور لطف الله عز وجل بعباده]
قال تعالى: ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)) لطف الله عز وجل ذكرنا أنه بمعنى البر، وبمعنى الرفق، وبمعنى الاحتفاء والإكرام لأوليائه سبحانه وتعالى، وكذلك من لطفه سبحانه: العلم بغوامض الأشياء، فالأشياء الغامضة التي يشكل عليك أمرها الله يعلمها تبارك وتعالى، ويفرج عنك ما أشكل عليك من ذلك.
كذلك من لطف الله سبحانه: أن ينشر مناقب العباد، وأن يستر مثالبهم، فالله لطيف بعباده، تجد الشيء الخيّر الذي تفعله الله عز وجل ينشره، وتجد من يقول لك: جزاك الله خيراً على ما فعلت، وقد تستر هذا الشيء، ويشاء الله عز وجل أن يعرف؛ ليشكرك الناس، وأنت لم تطلب ذلك.
والذنوب التي أفعلها بيني وبين ربي من لطفه أنه يسترها سبحانه وتعالى، فالله لطيف بعباده، يستر عليك ذنوبك، فلا أحد يطلع على شيء قد ستره الله سبحانه وتعالى، ولم يؤاخذك بها في الدنيا، ولم يفضحك بها في الدنيا، فلطف بك، ونشر ما تمدح به، وستر ما تذم به من لطفه وكرمه سبحانه وتعالى.
ومن لطفه أن كلف العباد عبادته، وكلفهم بما هو دون طاقتهم، ولم يكلفهم ما هو فوق الطاقة، والله عز وجل كلف عباده بأن يعبدوه بأشياء معينة، وبطرق معينة، قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦].
ولكن هل كلفنا الله طاقتنا جميعها؟ أبداً والله! بل الله سبحانه رحيم لطيف بعباده، كلفنا أقل من ذلك، كلفنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، وموسى عليه الصلاة والسلام استثقلها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك.
وها نحن نصلي الخمس الصلوات، ونصلي التراويح، ونصلي النوافل، ونقدر عليها، ونقدر على أكثر منها، ولم يكلفنا الله سبحانه إلا ما هو أقل، وكلفنا أن نصوم شهر رمضان، فنحن نصوم رمضان، ونصوم ستاً من شوال، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، وقد يصوم البعض الإثنين والخميس، وغير ذلك.
فعلم الله أنكم تقدرون، ولكنه بفضله كلفكم الشيء الأقل؛ وحتى لا تتعبوا، وحتى لا يشق عليكم، وحتى لا تتركوا العبادة فكلفكم بما تطيقون، وبأقل مما تطيقون أيضاً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإنه سبحانه لما أمرك أن تنفق قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧] ولم يكلفك الشيء الذي لم يؤتك إياه، وقال: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧] فكلفك الله بالإنفاق الواجب على زوجتك، وعلى عيالك، وعلى أمك، وعلى أبيك بما أتاك الله، فإذا كنت قليل المال فمن هذا المال القليل، وإذا كنت كثير المال فمن سعتك ومن طاقتك، ومع ذلك يعطيك أكثر مما تنفق، ووعد سبحانه أنه لا ينقص المال من النفقة ومن الصدقة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، هذا رزق الله، وهذا كرم الله سبحانه، فالله لطيف بعباده.
وحين تنزل المصيبة في مكان ويتأمل الإنسان ويقول: يا ترى ماذا سيفعل أهل هذا المكان؟ فمن لطف الله عز وجل أنه يرفع هذه المصيبة، ويرفع هذا البلاء، ويرزق أهله الصبر عليه.
فالإنسان يتوقع لو حصل فيّ شيء فلن أستطيع أن أصبر على هذا الشيء، فيقع عليك وتصبر عليه؛ لأن الذي لطف بك هو الله سبحانه وتعالى، والذي صبرك وقدرك وأعانك على هذا البلاء هو رب العالمين تبارك وتعالى.
فانظر إلى السيدة أم سلمة رضي الله عنها حين توفي زوجها أبو سلمة رضي الله عنه، وكان أبو سلمة خير الناس لها، وهي لا تظن أن أحداً من الناس خير من أبي سلمة رضي الله عنه، فلما مات حزنت عليه حزناً شديداً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أن تدعو وتقول: (اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها)، وأن تقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون).
فالإنسان قد تنزل به المصيبة، والذي أنزلها هو الله، والذي يكشفها هو الله، والذي يعين عليها ويصبِّر عليها هو الله، فالله لطيف بعباده سبحانه، فعلمها فقالت ذلك الدعاء، قالت: ولكن كنت أقول: أبو سلمة مات وأقول: اخلف لي خيراً منه، من خير من أبي سلمة؟ وكونها تقول: اخلف لي خيراً منه، قد يخلف لها في الدنيا فيعطيها زوجاً آخر، وقد يعطيها صبراًَ ورزقاً ويعطيها ما يشاء تبارك وتعالى، ولا يشترط أن يكون الخير أن يرزقها زوجاً، فهي ظنت أنه لا أحد خير من أبي سلمة.
وتمر الأيام والليالي، وتمر عدتها، وإذا بالذي يخطبها هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا شيء ما كان على بالها أبداً، فلم يكن في بالها أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يخطبها، ولذلك قالت: من خير من أبي سلمة؟ فهي تظن أنه لا أحد خير من أبي سلمة لا أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما، وكل امرأة عندها زوجها هو خير ما يكون، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها ويتزوجها، قالت: (فأبدلني الله خيراً منه)، أبدلها الله خيراً من أبي سلمة بسيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
فالله لطيف بعباده؛ يلطف بك من وجه أنت لا تستشعره، ولا تحسه؛ فإذا بلطف الله يأتي ويخفف عنك البلاء، يكشف البلاء، ويرفع عنك الحرج الذي أنت فيه والهم والغم والمصيبة.
والمسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة مرة، وهاجروا مرة أخرى، وهاجروا إلى المدينة، هاجروا وهم لا يدرون إلا أن هناك الجنة، وهناك الأجر من الله سبحانه وتعالى، لكن كم مقدار هذا الأجر؟ هل كانوا يتوقعون أن يخلد الله ذكرهم بأن يذكرهم في القرآن ويصفهم المهاجرين السابقين الأولين لأنهم هاجروا إلى مكان الإيمان؟ وأهل المدينة هل كانوا يتوقعون أن يذكرهم الله سبحانه، ويخلد ذكرهم لأنهم تبوءوا الدار، وتبوءوا الإيمان، وكانوا هم الذين ينصرون الله ورسوله؟ فالمهاجرون الصالحون والأنصار المفلحون ما كانوا يتوقعون أن الله يمدحهم في الدنيا، ويذكر ذلك، فإذا بالله يمدح هؤلاء وهؤلاء بما يدوم إلى يوم القيامة من ذكرهم رضي الله تبارك وتعالى عن جميعهم.
فالإنسان المؤمن يفعل الخير وهو يحسن الظن في الله، وهو يؤمل فضل الله، فالله لطيف بعباده، ((اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)).