[تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون)]
قال الله عز وجل مجيباً لهؤلاء آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سبأ:٣٦] لا يبسط الرزق للمؤمنين فقط، ولا يبسط الرزق للكافرين فقط، لا يبسط الرزق لهؤلاء لأنه يحبهم ولا لهؤلاء لأنه لا يحبهم، ولكن الله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء، فمن شاء بسط له في الرزق وأعطاه المال الوفير والرزق الكثير، ومن شاء ضيق عليه وأعطاه المال القليل والرزق القليل، فالله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أي: يقدر ويضيق على من يشاء سبحانه تبارك وتعالى.
والله سبحانه عليم حكيم يقول: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف:٣٣] أي: لولا أن يصير الناس أمة واحدة على الكفر وأن يكونوا كلهم كفاراً لجعل الله عز وجل الدنيا كلها للكفار.
ولولا أن تكون فتنة عظيمة للمؤمنين فإذا بالجميع يصيرون كفاراً: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا} [الزخرف:٣٣ - ٣٥] أي: ذهباً، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٥] ما الذي منع الله سبحانه تبارك وتعالى أن يفعل ذلك؟ من حكمته سبحانه أنه يعلم أن هؤلاء الخلق سيصلون كلهم إلى الكفر؛ لأنهم سيرون فتنة شديدة لا يقدرون عليها، فلولا ذلك لأعطى للكفار الدنيا كلها ومنع المؤمنين منها، فالدنيا ابتلاء ومحن، والدنيا لا قيمة لها عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك جاء في الحديث: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
فالدنيا لا تسوى عند الله ولا حتى جناح بعوضة، لذلك لا ينبغي للمؤمن أن يأخذ الكثير من هذه الدنيا.
فلولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعل الله هذه الدنيا للكفار ولحرم المؤمنين منها؛ فإنها لا قيمة لها، ولكن حكمة الله عز وجل أبت إلا أن يعطي هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك في هذه الدنيا، كما قال عز وجل: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:٢٠] فهو الكريم يعطي سبحانه تبارك وتعالى، ولكن العطاء الأعظم هو عطاء الآخرة التي يعطيها الله عز وجل للمؤمنين ويمنعها من الكفار، قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:٣٦].
إذاً: فالله عز وجل يعطي الدنيا للمؤمنين ولغيرهم، فالمؤمن يعطيه في الدنيا الرزق الحسن، ويعطيه المال الصالح، ويختبره هل يتصدق؟ هل يخرج الزكاة؟ هل يتواضع بهذا المال الذي أعطاه الله سبحانه أم أنه يغتر بهذه الدنيا؟ فالله عز وجل يعطي للمؤمن الصالح مالاً صالحاً يصلح لمثله، فينتفع به ويؤدي حق الله سبحانه تبارك وتعالى، ويؤجر عليه عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك جاء في حديث رواه الإمام أحمد من حديث عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: (بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذ عليك سلاحك وثيابك ثم ائتني.
قال: فأتيته وهو يتوضأ).
وعمرو بن العاص رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه وعن أخيه: (عمرو وأخوه مؤمنان) فشهد له صلوات الله وسلامه عليه بالإيمان.
وعمرو فرح بذلك، فجاء ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وكان عمرو بن العاص في جاهليته من رجال قريش ومن دهاتهم رضي الله تبارك وتعالى، ثم أسلم عمرو بن العاص بعد ذلك، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الإسلام فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده فقبض عمرو يده وقال: أشترط.
فقال: (وما تشترط؟ قال: أشترط أن يغفر لي) أي: أن ربنا يغفر لي الذنوب التي عملتها قبل ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله؟) أي: إذا دخلت في الإسلام غفر الله عز وجل لك ما كان قبل ذلك، فأسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم علم مقدرته على القتال وأنه يصلح للقيادة فقال له: (خذ عليك ثيابك) يعني: اذهب بيتك، والبس ثيابك وخذ سلاحك وتعال فقال: (ثم ائتني، فأتيته، وهو يتوضأ، فصعد فيّ النظر ثم طأطأ) يعني: نظر إليه من أعلاه إلى أسفله رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك) أي: أنا أريد أن أبعثك قائداً على جيش، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اذهب خذ عليك ثيابك وسلاحك) فلما جاء نظر إليه من أعلاه إلى أسفله فرآه مكتمل العدة، لابس السلاح ولابس الثياب التي تصلح للحرب وللقيادة، فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك وأرغب لك من المال رغبة صالحة) يعني: أنا أرغب لك أن يكون عندك شيء من المال، رغبة صالحة، فماذا كان جواب عمرو بن العاص؟ قال: قلت: (يا رسول الله! ما أسلمت من أجل المال) قال ذلك خشية أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يتألفه بذلك، وأنه أسلم من أجل المال، فهنا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرغب لك من المال رغبة صالحة) يعني: أنا لست داخلاً في الإسلام من أجل المال، قال: (يا رسول الله! إنما أسلمت لأكون معك، لم أسلم من أجل المال) يعني: ولكني أسلمت رغبة في الإسلام وأن أكون معك يا رسول الله.
وهذا جواب جميل من عمرو رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح).
إذاً: الإنسان المؤمن حيث يكون معه مال هذا شيء ليس سيئاً، وليس خبيثاً، ومن أعظم المال وأصلح المال وأطيب المال ما كان من رزق حلال، ومن أعظم الرزق الحلال الرزق في الجهاد، والغنيمة في الجهاد في سبيل الله التي جعل الله سبحانه رزق نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) يعني: رزقه من جهاده في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى.
فهنا ظهر لنا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن المؤمن قد يكون له مال صالح ومال حلال، ولا مانع من ذلك، فمهما وجد مالاً كثيراً صالحاً فإن المؤمن يستعمله في مرضاة الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك ربنا سبحانه لم يحرم المؤمنين من ماله في الدنيا.