[اختلاف القراءات في قوله تعالى: (أذهبتم)]
وهذه الكلمة فيها قراءتان: (أذهبتم) على الإخبار، و (أأذهبتم) على الإنشاء والاستفسار والاستفهام يوم القيامة.
فقوله تعالى: (أذهبتم) تقرير لهم، أي: قد فعلتم ذلك، فأذهبتم الطبيات واستمتعتم بالدنيا وبكل ما فيها من محرمات وأخذتموها، فاليوم ليس لكم جزاء إلا النار.
والقراءة الأخرى: (أأذهبتم) استفهام توبيخي وإنكار على هؤلاء، أي: قد أعطيناكم الدنيا لتعبدوا الله، وقلنا لكم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:٥٦ - ٥٨].
فالقراءة الأخرى: (أأذهبتم طيباتكم)، أي: هل فعلتم ذلك؟
و
الجواب
أذهبوا طيباتهم في هذه الحياة الدنيا، وقراءة الاستفهام أيضاً فيها وجوه للقراء في قراءتها.
فالقراءة: (أأذهبتم طيباتكم) هذه قراءة ابن ذكوان وقراءة روح عن يعقوب.
وتقرأ: (آذهبتم) بالمد والتسهيل، وهذه قراءة ابن كثير وقراءة رويس وقراءة هشام بخلفه.
وفي قراءتها وجوه لـ هشام، أيضاً ابن كثير يقرؤها: (اأذهبتم) بالتسهيل بغير مد فيها، وكذلك رويس، فتكون القراءات فيها: (اأذهبتم طيباتكم) قراءة ابن كثير ورويس، والقراءة: (آأذهبتم طيباتكم) قراءة أبي جعفر وقراءة أيضاً هشام بخلفه، وهناك وجه ثالث لـ هشام فيها، وقرئت (أأذهبتم طيباتكم) بهمزتين وهي قراءة ابن ذكوان وقراءة روح عن يعقوب.
وباقي القراء يقرءونها: (أذهبتم).
وقوله تعالى: ((طَيِّبَاتِكُمْ)) أي: ما أنعمنا به عليكم في هذه الحياة الدنيا، فأخذتم المال فأنفقتموه في الحرام، وشربتم به الخمور، وأكلتم به الخنازير، ووقعتم فيما حرم الله عز وجل من أخذ المال من الباطل، فضيعتم هذه الدنيا في الباطل.
فيسأل الإنسان عن عمره وعن شبابه وعن ماله وعن علمه يوم القيامة، يسأل عن عمره فيما أفناه، والعمر من طيبات الله عز وجل التي أنعم الله بها على العبد، فقد أعطاك عمراً، وأعطاك شباباً وصحة وقوة.
وعن شبابه فيما أبلاه، أي: أين أبليت هذا الشباب وأفنيته وضيعته؟ فهل عملت بالطاعات أم عملت بالمعاصي؟ ويسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ويسأل عن العلم الذي تعلمه ماذا عمل به؟ هل عمل بطاعة الله عز وجل، أم عمل بمعصية؟ نسأل الله العفو والعافية ومغفرة الذنوب.
فقوله تعالى: ((طَيِّبَاتِكُمْ)) أي: ما أعطيناكم من أشياء لتستغلوها في عبادة الله سبحانه أذهبتموها في حياتكم الدنيا، وأفنيتم شبابكم وأعماركم في الكفر وفي المعاصي، وضيعتم هذه الطاقات التي كان من الممكن أن تنتفعوا بها لتدخلوا الجنة، ضيعتموها في الدنيا، فاذهب الإنسان عمره، وضيع ماله، وضيع شبابه، وأفنى جسده بمعصية الله، وأذهب عقله بشرب الخمور وشرب ما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، وأذهب ماله في شراء الخبيث، وفي التفريط على نفسه في المعاصي وفي الذنوب.
كذلك: ((أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا)).
أي: أخذتم كل ما طاب لكم واستمتعتم وجعلتم الدنيا للدنيا وتستعدوا بها للآخرة، فيوم القيامة ((تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)).
فقوله تعالى: ((عَذَابَ الْهُونِ)) أي: العذاب الذي يهينكم، وهو عذاب الهوان والذل والصغار، فالإنسان الذي كان كبيراً في الدنيا وكان مستمتعاً فيها ومغروراً بها يهان يوم القيامة، ويعذب ويذل ويعرض على النار أصغر الصاغرين، ويكون أسفل السافلين في نار الجحيم والعياذ بالله، ويقال لهم: ((فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)) أي: عذاب الهوان والصغار باستكباركم، فمن كان في الدنيا مستكبراً متعالياً رافعاً أنفه شامخاً في السماء مستكبراً على خلق الله، فإنه يذل يوم القيامة، ويعرض المستكبرون على أشد النار سعيراً أمثال الذر من الصغار، كما ثبت من ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: ((تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)).
أي: عذاب الخزي وعذاب الفضيحة والصغار والذل، والسبب: ((بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ))، وبئس الاستكبار والاستعلاء على أهل الأرض؛ إذ يستعلون على خلق الله عز وجل ويتكبرون عليهم بغير الحق، ولا يوجد استكبار على الخلق بحق، ولكن هذا الإنسان ظن بنفسه أنه أعلى من غيره، فظنه باطل وهو يعلم ذلك في نفسه، وهو يعلم أن كل إنسان مخلوق من طين، لكنه يستكبر، وهو يعلم أن هذا الاستكبار ليس حقاً له، فالمعنى: فاستكبرتم في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون في أفعالكم بغياً وظلماً وعناداً وخروجاً عن طاعة الله سبحانه، وهذا يفسر الخروج عن الطاعة.