[تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)]
قال سبحانه: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:٣٢] أي: لقد فضلناهم على كل عالمَ زمانهم، فما كان أحد منهم يعبد الله سبحانه وتعالى إلا موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من بني إسرائيل، فقربهم الله عز وجل واختارهم في هذا الزمان، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، فالله عز وجل يبغض المشرك الذي يكفر بالله سبحانه، بينما الذي يوحد الله سبحانه يحبه، فقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على التوحيد إلا القليل من بقايا أهل الكتاب؛ فقد كان أهل الكتاب منتشرين في كل مكان، فكان منهم من هو على دين موسى عيه الصلاة والسلام، ومنهم من هو على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، فوحدوا الله عز وجل ولم يشركوا به شيئاً، فلم يقولوا: عزير ابن الله، ولم يقولوا: المسيح ابن الله، وإنما عبدوا الله سبحانه وتعالى.
فهؤلاء هم الذين كان سلمان يدور بينهم رضي الله عنه، فقد كان أبوه صاحب بيت النيران لملوك الفرس، وكانوا يعبدون النار من دون الله عز وجل، فهرب سلمان من بيت أبيه واتبع أهل الكتاب، وأخذ يبحث عن الدين الحق، حتى أظله زمان النبي صلوات الله وسلامه عليه، فعبد الله سبحانه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ما جاء النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فهؤلاء كانوا بقايا من أهل الكتاب، فكان سلمان يذهب إلى واحد منهم فيقول له: علمني، فيعلمه ويقول له: كن معي، فيمكث معه سنين يعبد الله عز وجل على التوحيد الخالص، ثم إذا دنا الأجل من هذا الراهب يقول سلمان: بمن توصيني؟ أي: أن اذهب إليه فاعبد الله معه، والبلد كلها فيها نصارى، لكن الراهب يعلم أنهم على الباطل، ولذلك يقول له: اذهب إلى المكان الفلاني فإن فيه راهباً يعبد الله سبحانه، يعني: على التوحيد الذي أنا عليه، فيذهب للمكان الفلاني، والمكان مليء بالنصارى، ولكن هذا الراهب موحد لله عز وجل، فيذهب إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه ويمكث معه فترة من الزمن، فهو رضي الله عنه قد مكث مع رهبان كانوا موحدين الله سبحانه، وبعضهم كان منافقاً مجرماً يأخذ أموال الناس بالباطل، فعندما يموت إذا بـ سلمان يفضحه ويقول للناس: هذا كان يأخذ أموالكم، ويجعله في المكان الفلاني، فيذهبون إلى المكان فيجدون أموالهم، فهو لم يكن يعبد الله حق العبادة، فيأخذونه ويحرقونه بعد موته.
وفي النهاية: مكث عند راهب من الرهبان، وعند دنو الأجل منه قال: لا أعلم أحداً على الأرض يعبد الله سبحانه وتعالى، ولكن قد أضلك زمان نبي يبعث في بلاد العرب.
فإذا بـ سلمان يسافر إلى بلاد العرب مع مجموعة من العرب في قصة طويلة، وفي النهاية يسترقّونه بعد ما كان له شأن رضي الله عنه، فصار عبداً رقيقاً، وباعوه من يهودي في المدينة، وصار عبداً عند يهودي في المدينة، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان الرهبان قد أخبروا سلمان بصفات النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن صفاته أن بين كتفيه خاتم النبوة صلوات الله وسلامه عليه مثل بيضة الحمامة، ومن صفاته عليه السلام أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإذا بـ سلمان يختبر وينظر هل هذا رسول الله أم لا؟ فيذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ معه تمراً فيقول: هذه صدقة.
فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرفع يده ويعطيها لأصحابه يأكلون، وسلمان شاهد ينظر ذلك، ثم يأتي له مرة أخرى بطبق فيه تمر ويقول: هذه هدية، فيأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم ويعطي من معه فيأكلون، ثم إذا بـ سلمان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فأسقط ردائه صلى الله عليه وسلم، فنظر لخاتم النبوة بين كتفيه، فأسلم سلمان رضي الله عنه واتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يخرج من الرق لكن لا يقدر أن يخرج من ذلك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكاتب صاحبه، فإذا باليهودي يتعنت ويقول: ازرع لي ثلاثمائة شجرة وأنا أتركك، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يطلب من أصحابه أن يعينوه، فأعانه أهل المدينة بثلاثمائة فسيلة، فكان كل منهم يعطيه شيئاً، والعادة أننا عندما نغرس غرساً فليس كل غرس يخرج، فمنها ما يموت، ومنها ما يخرج، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوا بالبركة، ويذهب مع سلمان رضي الله عنه فتخرج جميعها وتنبت، وكلها كانت صالحة، فيعتق سلمان رضي الله عنه ليجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
والغرض من ذلك كله: بيان أن أهل الكتاب كان القليل منهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، فهؤلاء الذين يحبهم الله عز وجل، ففي عهد موسى عليه الصلاة والسلام كان أهل الأرض جميعهم منه من يعبد الأصنام، ومن يعبد الأحجار، ومن يعبد الخلق، ومن يعبد الجان، فكل منهم يعبد شيئاً، إلا من كان مع موسى فإنهم كانوا يعبدون الله عز وجل، فهؤلاء اصطفاهم واختارهم الله على علم منه بما في قلوبهم من توحيده سبحانه.
فليس المعنى: أن بني إسرائيل جميعهم قد فضلوا على الخلق، لا، وإنما الموحدون منهم فضلهم الله عز وجل على كل من كان في زمانهم، ففضلهم الله عز وجل على العالَمين، وجعل فيهم أنبياء، وجعل رسولهم موسى عليه الصلاة والسلام، وفضّل هذا الرسول بأن كلمه الله سبحانه وتعالى، فهذا اصطفاء من الله عز وجل لمن يشاء من خلقه سبحانه.
قوله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:٣٢] أي: اختيروا على أهل زمانهم، ولما جاء زماننا قال الله عز وجل للمؤمنين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠] أي: كنتم أخير، وأخير هنا على وزن أفعل تفضيل، بمعنى: أخير الأمم، فإذا كان بنو إسرائيل اختارهم الله عز وجل على من كان في زمانهم، فقد انتهى هذا الأمر بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم وإيمان المؤمنين به، فأنزل الله عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:١١٠]، ولم يقل: أنتم خير أمة، ولكن {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:١١٠]، وكأن: (كان) تفيد الماضي، أي: جعلكم الله أنتم الخيار منذ الأزل، وإن جاء زمان بني إسرائيل فاختارهم ولكن كنتم أنتم الأخير، فكنتم خير أمة عند الله سبحانه وتعالى من قبل أن تخلقوا، ومن قبل أن تأتوا، كنتم أنتم الأخير من الجميع.
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠]؛ لكونكم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران:١١٠]، ولو آمن آهل الكتاب كما آمنتم أنتم وكما تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لكان خيراً لهم.