لما ذكر الله سبحانه وتعالى مناظرة مؤمن آل فرعون لفرعون وملئه الذين وافقوا فرعون على قتل موسى ومن معه، وكيف أنه جادلهم في هذا الأمر، وقال لهم: كيف تقتلون رجلاً ذنبه أنه يقول: ربي الله! وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! ولم يزل يناقشهم في ذلك حتى ضاق فرعون بمناظرته وبكلامه فقال:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:٢٩].
وقد كان هذا المؤمن يكتم إيمانه فأعلنه صراحة وجهر به وقال:{اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:٣٨]، وذكرهم بالله سبحانه وتعالى، وذكرهم بأن موسى ليس بالشيء الجديد، ولا بالنبي الذي أرسله الله عز وجل أول مرة، بل قد أرسل قبل ذلك يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومع ذلك شكوا وارتابوا، فقال المؤمن لهؤلاء: إن الذي تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا، فأنتم تدعونني إلى عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، وأن مردنا ومرجعنا إلى الله، وأن المسرفين أمثالكم يستحقون أن يكونوا أصحاب النار.
ثم قال:{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ}[غافر:٤٤]، وكأنه يتوعدهم بعقوبة الله سبحانه وتعالى، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ}[غافر:٤٤]، يوم لا ينفعكم التذكر، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[غافر:٤٤]، أسلم أمري إلى الله، وأتوكل على الله، فلما قال ذلك إذا بالله الكريم سبحانه يقيه سيئات ما مكروا، {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}[غافر:٤٥] والآية فيها إشارة إلى أنهم أرادوا به المكر، وأرادوا قتله، فإذا بالله ينجيه من بطشهم وبأسهم، قال تعالى:(فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، أي: ما كادوا له، وما كادوا لموسى ولمن معه، فوقاهم الله عز وجل هذا الشر في الدنيا، وجعل هذا المؤمن آية من آياته سبحانه وتعالى، فذكره في كتابه، فلا يزال المؤمنون يقرءون هذه السورة الكريمة ويذكرون هذا المؤمن رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويقتدون بقوله وبفعله، وبهدوئه وتعقله في مناقشته لقومه.
قال تعالى:(فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، أي: ما مكروا له ولموسى، قال:{وَحَاقَ}[غافر:٤٥]، أي: أحاط، أو نزل نزول إحاطة وإهلاك لا يفلت منه أحد، فكأن العذاب نزل فأحاط بهم فدمر جميعهم، وهكذا كان الحال والأمر، فلما أراد فرعون أن يخوض البحر إذا بالله عز وجل يمكر به، فيجعل موسى يضرب البحر بعصاه فينفلق البحر ويمر موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما توسط البحر إذا بفرعون يقبل هو ومن معه من جنود وينظرون إلى البحر متعجبين مترددين، فلم يأبه فرعون لتكبره وعتوه لهذه الآية العجيبة العظيمة في هذا البحر العميق المخيف، ولم يعترف بأنها آية من آيات الله حصلت لنبي مرسل وهو موسى عليه السلام، بل ختم الله سبحانه على قلبه فإذا به لا يفقه، ولا يفهم، ويأمر من معه أن يعبروا البحر وراء موسى، وفي هذه الأثناء يصل موسى ومن معه إلى الناحية المقابلة، في حين يتوسط فرعون وجنوده البحر، فإذا بأمر الله سبحانه وتعالى يتنزل على البحر فينطبق البحر على فرعون ومن معه، وهكذا استأصلهم الله جميعهم ولم ينج منهم أحد، إلا فرعون فقد قال الله سبحانه وتعالى:{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}[يونس:٩٢]، أي: الجسد فقط؛ لينظر الناس إلى نهاية فرعون المجرم المجنون الذي كان يقول: أنا إله، فأين ذهبت ألوهيته؟ وأين ربوبيته يوم أن قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}[النازعات:٢٤]؟ أهلكه الله سبحانه وتعالى في هذا البحر العميق، وأخرجه للناس عارياً، ليكون آية للناس أن الله سبحانه سيهلك كل جبار عنيد، كما قال تعالى:{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف:١٨٣]، وقال:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:٢].
فوقى الله عز وجل مؤمن آل فرعون وموسى ومن آمن معه سيئات ما مكر فرعون وملأه، قال تعالى:(وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ (، أي: نزل بهم من العذاب الشديد ما أحاط بهم وأهلكهم: (سُوءُ الْعَذَابِ)، أشد أنواع العذاب.