للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[علامة بدء الغرق التي جعلها الله لنوح]

لقد أمر الله سبحانه نوحاً فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠].

وقد جعل الله علامة منه عز وجل لنوح، وهي أن هذا التنور الذي تشتعل فيه النار سينبعث الماء من داخله، فإذا وقع ذلك فاركب السفينة أنت ومن معك، {إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود:٤٠] أي: وعدنا الذي وعدناك به، {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:٤٠] أي: إذا رأيت النار تنطفئ في التنور، ويخرج منه الماء فهذه العلامة إشارة لنزول العذاب، ولكن سننجيك أنت وأهلك المؤمنين، ونهلك هؤلاء الظالمين، فلما جاء أمر الله وفار التنور بالماء ركب نوح السفينة هو والمؤمنون معه، ونادى على ابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:٤٢]، فأبى هذا الابن الكافر إلا أن يكون مع قومه، ورفض نصيحة أبيه عندما رأى الأرض تخرج كل المياه الجوفية منها، ومياه الأنهار تفيض وتلتقي مع مياه الأرض جميعها، وإذا بهؤلاء القوم يهربون إلى الجبال، وإذا الأمواج تعلو فوق الجبال وابن نوح معهم {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:٤٣]، فلم يسمع كلام أبيه ولم يستجب لكلام ربه سبحانه، وإذا به كما قال تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:٤٣] أي: أحاط به الماء فصار من المغرقين، وارتفعت السفينة وعلت، وأهلك الله عز وجل الكفار.

قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء:١١٩] أي: الموقر الممتلئ، وهو السفينة، فرجل واحد صنع سفينة وسعت هؤلاء المؤمنين معه، فسبحان الله! قال الله عز وجل لنوح: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود:٤٠] أي: احمل أهلك، واحمل المؤمنين معك، واحمل من الدواب من كل زوجين اثنين ذكراً وأنثى، ولا قدرة لإنسان أن يصنع ذلك إلا بأن يقدره الله سبحانه وتعالى على ذلك، فهو الذي علمه، وهو الذي أعانه سبحانه وتعالى، فصنع هذه السفينة فصارت موقرة مشحونة مملوءة بالخلق وبالدواب وغيرهم.

قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [الشعراء:١١٩ - ١٢٠] يعني: بعدما أنجيناه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أغرقنا هؤلاء الباقين، فطفت السفينة فوق الماء، وأهلك الله عز وجل الكفار غرقاً، فكانوا أول الخلق على الأرض يعاقبون بمثل هذه العقوبة الصعبة الشديدة، وهي أن تنفجر المياه من تحتهم، وتنزل عليهم المياه من أبواب السماء {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:١١ - ١٣] أي: حملنا نوحاً على سفينة مصنوعة من ألواح ومسامير، فالألواح هي الخشب، والدسر: المسامير.

والسياق في كل قصة يناسب السورة التي هو فيها، والفواصل التي هو فيها، فهنا قال: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:١٣]، فما قال: على فلك ولا على سفينة؛ لأن الوزن والسياق والخاتمة هنا لكل آية هو حرف الراء، فذكر فيها الفاصلة المنتهية بالراء، فلما ذكر السفينة عبر عنها بـ {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:١٣]؛ لتناسب باقي السياق الذي في الآيات.

ثم قال الله سبحانه: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:١٣ - ١٤] يعني: أن العادة عندما تكون هناك سفينة والأرض تنفجر تحتها ماء، ويوجد طوفان عظيم جداً فإنها تُغرق هذه السفينة، إضافة إلى أن الأمطار التي تنزل {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر:١١]، فلابد أن تغرق السفينة، ولكن الله عز وجل يخبر هنا أنه هو لذي حملها فلن تغرق هذه السفينة {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:١٣ - ١٤] أي: بحفظنا وبحراستنا وبرعايتنا، فنحن الذين حملناها، ونحن الذين حفظناها، وهذا الجزاء جزاء لمن كان كفر، أي: من كفر بنوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنهم كفرو به وجحدوا بما جاء به، وهناك فرق بين كَفَر وكُفر، فكفر مبني للمجهول، فنوح عليه الصلاة والسلام قد كفروا به وكذبوه وجحدوه، فهذا الجزاء هو جزاء لهذا النبي الذي كفره قومه، وأبوا أن يستمعوا له وأن يستجيبوا لدعوته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>