[تفسير قوله تعالى: (فلما بلغ معه السعي)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الصافات: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات:٩٩ - ١١١].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، لما دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكسر أصنامهم وسفه معبوداتهم، واجتمعوا أن يكيدوا له كيداً عظيماً وأن يلقوه في النار ليحرقوه، فأنجاه الله سبحانه وتعالى من النار فأرادوا به كيدا فجعلهم الله عز وجل الأسفلين والأخسرين.
قال إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:٩٩].
فخرج مهاجراً إلى الله، وإبراهيم كان مولده في جنوب العراق في بلدة اسمها أور، وهاجر من هذا المكان إلى شمال العراق إلى حران وهي في تركيا الآن، ووجد قومها يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، وناظرهم وأبهتهم وغلبهم بالحجة، وتركهم وهاجر إلى الله سبحانه إلى بلاد الشام، ودعا ربه سبحانه {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:١٠٠ - ١٠١].
فبشره الله سبحانه وتعالى بغلام حليم، يولد له، ووصفه بهذه الصفة أنه حليم، وكأنه يستعد هذا الغلام لأمر من الأمور التي يبتلى بها كما ابتلي أبوه عليه الصلاة والسلام، هذا الغلام هو إسماعيل الذي ولد لإبراهيم بعد هجرته من حران في شمال العراق أو في تركيا، ونزل اتجاه البحر المتوسط إلى بلاد الشام، وهنالك أقام إبراهيم فترة وبشره الله سبحانه وتعالى بالغلام الذي ولد له، وحدثت مجاعة في بلاد الشام، فجاء إبراهيم إلى مصر، وأخذ فرعون مصر منه زوجته في قصة ذكرناها قبل ذلك، وأهدى لها هاجر، فهي أمة لـ سارة وسارة أهدتها لإبراهيم، وسارة كانت عقيمة، فوهبت هذه الجارية لإبراهيم عليه الصلاة والسلام لعله يكون له منها الولد، فكان الولد الذي بشر الله عز وجل به الغلام الحليم، جاء على كبر سن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأمره الله عز وجل أن يأخذ هذا الولد ويذهب به إلى مكة ويتركه هناك كما ذكرنا في الحديث السابق، ولما بلغ معه السعي، أي: أنه أدرك السعي مع والده في شئونه، وبلغ الحلم ثلاث عشرة سنة أو فوقها، إذا بأبيه يأتي إليه ويقول: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:١٠٢].
قال: (يَا بُنَيَّ) هذه قراءة حفص عن عاصم وباقي القراء يقرءونها: ((يَا بُنَيِّ إِنِّي أَرَى)).
أيضاً قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، يقرؤها نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: ((إِنِّيَ أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)).
وهذا من إبراهيم نوع من تطييب الخاطر وتطييب القلب لابنه، وإلا فهو سينفذ أمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}، هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (تُرى) بالبناء للمجهول والإمالة.
{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢]، وكان الجواب من هذا الغلام الذي وصفه الله عز وجل بالحلم أنه عاقل ويتروى في أمره ويصبر، فهو غلام حليم، كما قال الله تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢].
ستجدني إن شاء الله من الصابرين، والبلاء بلاء عظيم، إذ إنه سيذبح؛ ولذلك استثنى وقدم مشيئة الله سبحانه وتعالى، وكان من المتوقع أنه سيفزع، ولكن قال: إن شاء الله، قال الله تعالى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢].
وقراءة الجمهور: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات:١٠٢]، وقراءة نافع وأبي جعفر: ((سَتَجِدُنِيَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)).