للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افترى على الله كذباً)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الشورى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:٢٤ - ٢٥].

قال الله سبحانه وتعالى للنبي صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:٢٣]، ومعناها كما قدمنا: لا أطلب أجراً على تبليغ رسالة الله سبحانه، والاستثناء استثناء منقطع، أي: ولكن الذي أطلبه منكم أن تودوني في قرابتي، وأن يود بعضكم بعضاً، ولا تقطعوا الأرحام، بل تصلوا ما بيننا من أرحام، حتى ولو لم تتابعوني في أمر الدين، ودعوني أبلغ رسالة الله عز وجل.

فكأنه يقول لهم صلى الله عليه وسلم راعوا ما بيننا من أرحام في أن تكفوا شركم عنا، إذا لم تتقوا الله عز وجل وتخافوا من الله سبحانه وتعالى، وتدخلوا في هذا الدين فأقل ما فيها مراعاة الأرحام، وهذا الطلب منه صلوات الله وسلامه عليه لأن قريشاً كانوا من أوصل الناس رحماً، وكانوا يعرفون صلة الأرحام ويفعلون ما يصلون به أرحامهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم بما قاله الله سبحانه: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:٢٣]، أي: صلوا الرحم التي بيني وبينكم، ولا تقطعوها ودعوها موصولة، ودعوني أدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وهم لو قاتلوا وحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم انقطعت الأرحام التي بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام، فيقول: صلوا الأرحام ودعوني أدعو غيركم إلى الله، فإذا استجاب هؤلاء فذلك خير، وأنتم انظروا في هذه الاستجابة إما أن تتابعوا وإما أن تظلوا على ما أنتم عليه، ولكن عليكم لصلة الرحم، ودعوني أدعو إلى الله سبحانه وتعالى.

ثم قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:٢٣]، الذي يقترف ويكتسب حسنة من الحسنات يعطيه الله عز وجل من فضله الحسنى وزيادة.

قال الله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ) أي: بل أيقولون؟ تسمى (أم) هذه الإضرابية المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، تحذف (أم) وتوضع مكانها (بل أ) كأنه يقول: أضرب عن هذا وانظر في أمر هؤلاء هل يقولون أنك افتريت على الله سبحانه وتعالى، اعجب لأمر هؤلاء، بل أيقولون قد افترى على الله كذباً، وهم قد قالوا ذلك، وقد قال له ربه سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣].

فالله عظيم وكريم ولطيف، فانظر إلى تلطفه بنبيه صلوات الله وسلامه عليه، والإنسان عندما يكون صادقاً إذا قيل له: أنت كذاب، يتألم ويتوجع ويتأسف، بخلاف الإنسان الكذاب، إذا أتى إنسان وقال له: أنت كذاب لا يتأثر؛ لأنه يعرف نفسه أنه كذاب، وإن كان يظهر أمام الناس أنه متأثر، فكل ذلك كذب وكله تمثيل، لكن الصادق عندما يقال له: أنت كاذب، فهذا يؤلمه جداً ويتعبه، وقد يهلكه مثل هذا الافتراء ومثل هذا الاتهام.

فقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كذاب، فأتعبه ذلك جداً صلوات الله وسلامه عليه، فإذا بالله يتلطف معه ويقول له: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣]، أي: هم يعرفون الحق تماماً، وأنا أظهر لك ما بداخل قلوبهم، فهم يجحدون، والجحود عكس الإقرار، فالإقرار: أن تشهد على نفسك بالحق الذي تعلمه، والجحود: أن أنفي ما أنا مقر به في داخلي، وهذا بخلاف الإنكار، فالإنكار: كمن يقول لك: ليس لك عندي شيء، والله ما لك عندي شيء، فهو يحلف وفي زعمه أنه صادق في نفسه، فهو ينكر هذا الشيء وقد يكون ناسياً، إما الجاحد فإنه يجحد الشيء وينفيه وهو في قلبه معترف به ويعرفه، فالظالمون بآيات الله لا ينكرون وإنما هم بآيات الله يجحدون، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:٣٣].

ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:٦]، أنت ستهلك نفسك عليهم لماذا؟ فقوله تعالى: ((بَاخِعٌ) أي: مهلك ((إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) أي: ألا يكونوا مؤمنين، فالنتيجة ليست عليك، فلست عليهم بمسيطر، ولست عليهم بوكيل ولا حفيظ، النتيجة على الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:٩٩]، عليه الصلاة والسلام، فعليك أن تبلغ الرسالات، فإن استجابوا فلك الأجر ولهم الأجر، وإن لم يستجيبوا فلك الأجر وعليهم الوزر، فعلى ذلك إن قالوا: افتراه، فهم يجحدون ويكذبون.

فقوله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: بل أيقولون افترى على الله الكذب، وافترى، أي: جاء بالفرية، والفرية: أعظم الكذب، فكأنه يقول: هل يقولون عنك جئت بأعظم الكذب؟ تركت الكذب على الناس وكذبت على الله سبحانه وتعالى؟ وقد سأل هرقل أبا سفيان فقال: هل عهدتم منه كذباً؟ قال: لا، قال: فما كنت لأراه يدع الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>