[تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)]
ابتدأت هذه السورة بقوله سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:١]، كفر بمعنى: جحد، والكفر هو التغطية والستر، ولذلك يسمى المزارع كافر؛ لأنه يضع البذرة في الأرض ويكفرها بالتراب أي: يسترها.
فكأن الكافر غطى على دلائل ما يدخله في دين الله سبحانه، وما يعرف به الله سبحانه وتعالى، فهو يريد أن يطمس النور الذي جاء من عند الله سبحانه، فهو يقول: لا يوجد إله أو آلهة مع الله، كأنه جعل ربه عاجزاً يحتاج لآلهة أخرى معه! حاشا لله سبحانه وتعالى.
فالكافر حين ينكر آيات الله، وينكر نعم الله يكفرها، ويغطيها ويسترها فلا ينظر إليها ولا يدعو إليها.
والكفر فعل لازم لهم في أنفسهم، والصد فعل متعد، فهم يصدون غيرهم عن طاعة الله وعن سبيل الله سبحانه وتعالى، فكفروا في أنفسهم ومنعوا غيرهم من الدخول في الإيمان بالتعذيب والتهديد والوعيد وغير ذلك.
وسبيل الله هو طريق الله المستقيم، طريق الإيمان، والإسلام.
{أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:١]، أي: أعمال الكفار، والضلال بمعنى الضياع والتيه وعدم الهداية، فهو سبحانه لم يهدهم في أعمالهم بل أضلهم بالطمس على قلوبهم، وعلى أبصارهم وبصائرهم، فلا يفهمون ولا يعقلون، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:٤٤].
وقوله: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:١]، هي من الآيات القصيرة التي لها معانٍ عظيمة جداً، وهي كثيرة في القرآن، وهذا من بلاغة القرآن فهو يبلغ إلى المعنى الذي يريده وإلى المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة.
ولها معنى آخر: وهو أن الله عز وجل أبطل على هؤلاء كيدهم ومكرهم وتدبيرهم للمؤمنين، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠]، وهذا وعد من الله عز وجل، أنه مهما مكر بكم الكفار واعتصمتم بالله سبحانه فإنه ناصركم عليهم، ومبطل كيدهم {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:١] أي: أبطل كيدهم ومكرهم وتدبيرهم لكم.
ولها معنى ثالث وهو: أنهم إذا جاءوا يوم القيامة تكون أعمالهم كلها هباءً منثوراً، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣]، فقد كانوا يطعمون الحجيج، ويسقونهم ابتغاء السمعة، ليس ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، وابتغاء الشرف، ومن أجل أن يقال عنهم: هذه القبيلة أفضل من هذه القبيلة، ولذلك كان سبب صدهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة إلى الله المفاخرة، لأنه سيكون أحسن منهم بزعمهم، فقد قالوا: تسابقنا مع بني هاشم، أطعموا الحجيج وأطعمنا الحجيج، وسقوا الحجيج وسقينا الحجيج، وعمروا المسجد الحرام وعمرنا المسجد الحرام، ثم لم يلبثوا أن قالوا: منا نبي، فأنى لنا بنبي؟ إذاًَ كان إطعام وسقاية الحجيج ليس من أجل التقرب إلى الله، وإنما كان لأجل المفاخرة وابتغاء الدنيا، وأن يكون لهم ذكر وفخر وشرف بين الناس.
ولذلك قالوا: حتى إذا كنا كفرسي رهان، أي: حتى إذا كنا في الشرف سواء قلتم: منا نبي! ومن أين نأتي بنبي؟ إذاً: فلن ندخل في هذا الدين.
فأبطل الله عز وجل ما عملوا مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق، من صلة الأرحام، وفك الأسرى، وقرى الأضياف، وحفظ الجوار، ونصر المظلوم، ونحو ذلك، فأبطل الله عز وجل عليهم أعمالهم؛ لأن هذه الأعمال لم يبتغ بها وجه الله سبحانه وتعالى، حتى وإن ابتغوا وجه الله بشيء منها فهم يشركون بالله سبحانه ويتقربون إلى غيره من أصنام وغيرها، والله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وما كان خالصاً له وحده سبحانه وتعالى.
وكان من هؤلاء الذين يوصفون بالإطعام المطعم بن عدي وقد كان هذا اسمه، واشتهر بأنه يطعم الناس، فكأنه أخذ فعله من اسمه، ابتغاء الدنيا، فكان ابنه يقول للنبي صلوات الله وسلامه عليه: أبي كان يطعم الحجيج ويفعل ويفعل، هل هذا نافعه عند الله عز وجل؟ قال: لا، (إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)، يعني: ما أخلص لله عز وجل، فقد كان عمله لغير الله، فلا يقبله الله عز وجل.
كذلك من هؤلاء من أطعموا في يوم بدر، فقد كان فيهم اثنا عشر رجلاً تكفلوا لجيش الكفار بالطعام، فكانوا ينحرون عشرة جمال أو تسعة جمال كل يوم، وهؤلاء الاثنا عشر: أبو جهل والحارث بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبي بن خلف وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج ونبيه بن الحجاج وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام والحارث بن عامر بن نوفل، هؤلاء الاثنا عشر أنفقوا من أموالهم، والله يقول: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:١]، فلو أنفقوا ما أنفقوا فإنه إنفاق على الكفر لا ينجح عند الله سبحانه وتعالى.