للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر)]

قال سبحانه: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:٦٣] أي: من الذي يدلكم وأنتم في ظلمة البحر، بأن يهديكم بالنجوم وبالعلامات التي ترونها، ويخرجكم من ظلمة البر والبحر، من الذي يفعل ذلك؟ ومن الذي يرسل هذه الرياح بشراً بين يدي رحمته ونشراً، فينشر لكم به الأرض بعد موتها، ويحيي به الأرض، ويخرج بهذا المطر النبات؟ ومن الذي يسير هذه السحاب إلا الله سبحانه وتعالى، فتستبشرون بالرياح، وتستبشرون برؤية السحاب؟ {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٣]، والجواب أنه: لا إله إلا الله، تعالى الله عما يشركون.

قال الله: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل:٦٤]، أي: من الذي بدأ الخلق؟ الكل يقولون: الله هو الذي بدأ الخلق، ومن يعيد هذا الخلق كما بدأه؟ وهل إعادة الخلق أصعب من بدء الخلق؟ بل كله هين على الله سبحانه وتعالى، ولذلك يخبرنا أنه سيخلق الخلق مرة ثانية، قال: (وهو أهون عليه)، أي: أنه هين على الله سبحانه أن يعيد الخلق مرة ثانية، قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧]، فإعادة الخلق مرة ثانية أهون من بدء الخلق، فإذا كان بدء الخلق هيناً على الله سبحانه، فكيف تكون الإعادة؟! ولكنهم ينكرون، فهم يثبتون أنه سبحانه بدأ، لكنهم ينكرون المبعث، يقول الله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:٥]، أي: سنرجع مرة ثانية.

وقال: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:٤٩]، أي: سيرجعنا مرة ثانية، هذا صعب لن يكون، هذا مستحيل، فينكرون شيئاً أثبتوا أصله، فهم يقولون: الذي خلقهم في البداية هو الله سبحانه وتعالى، فهذا الإله العظيم الذي خلق، أليس قادراً على الإعادة مرة ثانية؟ وأنتم تفكروا في أحوالكم، إذا صنع أحدكم آلة من الآلات وبعدما صنعها فككها، أليست إعادتها على هذا الذي صنعها أهون عليه من ابتداء صنعها واختراعها؟! تفكروا في أنفسكم حتى تعرفوا قدرة ربكم سبحانه وتعالى.

قال: {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [النمل:٦٤]، أي: من الذي تطلبون منه: يا رب ارزقنا، يا رب توكلنا عليك! من الذي يفعل بكم ذلك؟ الكل يقول: الله.

ولو أنكر الكافر بلسانه فهو يعرف بقلبه، والذي يدل على ذلك: أن الله شهد عليهم أنهم مقرون بأنه الخالق، قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:٩]، سبحانه وتعالى.

فكأن هؤلاء الكفار وإن نطقوا بألسنتهم بأشياء يكذبون بها، فإنهم في داخلهم يعرفون الله سبحانه وتعالى، حتى لو أنكروا وقالوا: الذي خلقتنا الصدفة أو الطبيعة، مثلما يقول الملحدون الدهريون، فيقال لهؤلاء: هذه الطبيعة التي أوجدتكم، أو هذه الصدفة التي تزعمون، هل هي قادرة عليمة حكيمة تعلم ماذا تعمل، وتقدر عليه؟ سيضعون صفات الله عز وجل لهذه الطبيعة، وفي النهاية يوجد خالق خلقهم، ولكن يفرون من أن يقولوا: الله، حتى لا يكلفوا، وحتى لا يعبدوا الله سبحانه وتعالى.

فالكافر ينكر ربه مكابرة وجحوداً، حتى لا يقال له: اعبد الله سبحانه وتعالى، وحتى لا يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فينكرون إلهه سبحانه حتى لا يتابعوه في دينه، عليه الصلاة والسلام.

فالذي يبدأ الخلق والذي يعيد الخلق وهو أهون عليه هو الله سبحانه، والذي يرزق العباد من السماء فينزل المطر، ويستجيب الدعاء، ويخرج لهم ما تنبته الأرض من نبات ومن ثمار هو الله، يقول الله: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٤]، هل إله مع الله يستحق أن يعبد؟ فكأنه أثبت الربوبية، ثم أنكر عليهم أن يشركوا في إلوهيته غيره سبحانه، فقال: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:٦٤]، فكل آية يختمها بما يناسبها، فلما ذكر مجموعة من الأدلة على ما أنعم به على عباده، ختم بهذا الختام الجميل، قال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:٦٤] أي: هاتوا الدليل على ما تقولون، من أن غير الله يستحق أن يعبد، فإذا قالوا: نعبد اللات والعزى، فما الدليل على أنها تستحق العبادة؟ هاتوا الدليل النقلي، والدليل العقلي الذي يدل على ذلك؟ والدليل النقلي: أن يكون معك كتاب من عند الله، أو آثار من علم لتقول: اعبدوا هذا من دون الله، وهيهات أن يأتوا بمثل ذلك.

والدليل العقلي: لماذا تعبد هذا الحجر الذي خلقته أنت، وصنعته أنت، وهو لا ينفع نفسه فضلاً عن أن ينفعك، ولا يضر نفسه ولا يضر أحداً؟ فالعقل لا يجيز ذلك، ولا معك برهان على ما تقول، قال سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:٦٤]، يعني: في دعواكم هذه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>