للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه وكانوا لنا خاشعين)]

قال الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:٨٩].

وزكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو أبو يحيى النبي عليه الصلاة والسلام، وزكريا هو الذي كفل مريم عليها السلام، وولده يحيى هو ابن خالة المسيح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فكان زكريا زوج أخت مريم ومريم أم المسيح ويحيى هو ابن أختها، فهما أبناء خالة.

قوله تعالى: ((وَزَكَرِيَّا)) تقرأ بالمد وبالقصر، وقراءة القصر هي قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، كلهم يقرءونها: ((وَزَكَرِيَّا) وباقي القراء يقرءونها: ((وَزَكَرِيَّاء))، بالمد فيها، وستكون منصوبة، (زكرياءَ) يعني: اذكر زكرياء.

وهؤلاء الذين يقرءونها (زكرياء) لهم قراءتان فيها: الأولى: قراءة ابن عامر وشعبة: ((وَزَكَرِيَّاء إِذْ))، وباقي القراء في الهمزة الأولى يحققونها والهمزة الثانية يسهلونها، فيقول: ((وَزَكَرِيَّاء اِذْ نَادَى رَبَّهُ)) مثلما نقرأ: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:٤٤]، فهذه القراءات التي فيها.

قال تعالى: ((وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)) أي: نادى ربه مناجياً داعياً: لا تذرني فرداً، وذكرها الله عز وجل في سورة مريم، كما قدمنا قبل ذلك أنه قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:٥ - ٦] فقال: ((يَرِثُنِي))، وذكرنا أن الإرث الذي يقصده هنا هو ميراث النبوة، أي: يكون نبياً مثلي، فيرث العلم الشرعي، وإلا فالأنبياء أبعد الناس عن طلب المال أو عن جمع المال من أجل أن يرثهم أولادهم هذا المال، وإنما رأى أن من حوله من الأولياء والعصبات من قومه وأهله لا يصلحون لحمل ميراث النبوة، فالله سبحانه وتعالى ذكر أنه نادى ربه هنا وقال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء:٨٩] أي: أنا أدعو إليك فإذا مت انقطعت الدعوة بموتي.

{وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:٨٩] أي: أنت الذي ترث الأرض ومن عليها، وأنت الذي ترث أمري، وأنت الذي تبعث من بعدي من يدعو القوم، ولكن اجعل لي ولداً يرثني في أمر النبوة والدعوة إليك.

قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:٩٠] أي: بعدما كبر وشاخ في سنه استجبنا له ووهبنا له هذا الغلام يحيى.

{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:٩٠] أي: أن زوجة زكريا كانت عاقراً لا تلد فأصلح الله أمرها، وإذا بها تلد ويكون منها هذا الغلام، فالمعنى: أنا استجبنا له وأصلحنا زوجته فجعلناها تلد وجعلناها أهلاً لذلك، ووهبنا له يحيى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.

{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:٩٠]، يعني: لكونهم كانوا من الصالحين، ما هي أفعالهم؟ {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:٩٠] هذه صفات عظيمة لهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم ويذكر صفاتهم حتى يتأسى بهم صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم القوم أحوالهم.

قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:٩٠] العجلة مذمومة إلا أن تكون في الخير وفي المسابقة والمسارعة إلى الخيرات، فليسرع الإنسان لعله لا يدري هل يعيش إلى أن يعمل الخير أو يموت قبله؟! فأي عمل من أعمال الخير بادر إليه وسابق إليه وسارع إليه، فالخير كله من عند الله سبحانه وتعالى، فسارع قبل أن يفوت عليك الخير أو تتبدل نيتك.

وقوله: ((وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)) الرغب: شدة الرغبة فيما عند الله سبحانه، والطمع في كرمه وثوابه ورحمته سبحانه وتعالى، ترجو ما عنده، والرهب: الخوف منه سبحانه وتعالى.

وكمال العبادة لا يكون إلا بكمال الحب لله عز وجل وكمال الذل بين يديه سبحانه وتعالى.

فهؤلاء الأنبياء كانوا يدعون ربهم راغبين فيما عنده، سائليه جنته سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (ماذا تقول في صلاتك؟ قال: أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ)، يعني: لا أستطيع أن أدعو بما تدعو به أنت ومعاذ، ولكن أطلب منه الجنة وأستعيذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم له: (حولهما ندندن) أي: دعاؤنا كله حول دخول الجنة والنجاة من النار.

فهنا قال: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:٩٠] فلا يجوز للإنسان أن يقول: إني أدعو ربي محبة ولا أخاف منه، وإلا فربنا سبحانه قد خوفنا في كتابه بأنه شديد العقاب سبحانه، وأنه عزيز ذو انتقام سبحانه وتعالى، ولم يذكر ذلك إلا ليرغبنا في جنته ويرهبنا من عذابه وبطشه وانتقامه، فالعبد المؤمن من كمال عبادته لله سبحانه أن يحب الله ويرغب فيما عنده، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى، ويحذر من ناره سبحانه ونقمته وعذابه سبحانه.

إذاً: أعظم العبادة ما كانت على الرغبة والرهبة؛ لأن الرغبة وحدها تدفعه في النهاية لأن يكون مرجئاً، وسيترك العمل في النهاية ولا يعمل، وكذلك الإنسان الذي يعبد الله عز وجل بالخوف وحده يصل في النهاية إلى اليأس ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن الله عز وجل يرغب ويرهب عباده، فهو ما ذكر الجنة إلا لكي تطلبوا من الله عز وجل هذه الجنة، وذكر النار ليخوفكم منها وتتعوذوا بالله عز وجل منها ومن شرها ومن سمومها وجحيمها.

وقوله: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:٩٠] أي: كانوا خاشعين لرب العالمين سبحانه، يدعون ربهم سبحانه ويخشعون ويتواضعون ويذلون أنفسهم لربهم سبحانه وتعالى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>