[تفسير قوله تعالى: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:١٦ - ١٨].
بعد ما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى هذا الدين القيم بقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى:١٥]، أمره الله سبحانه وتعالى بأن يبلغ، ونهاه عن أن يتبع أهواء الكفار الذين يريدون منه أن يتبع ما هم فيه، ويشترطون للدخول في دينه أن يتابعهم في شيء، فلا تتبع أهواءهم، واحذر من هوى هؤلاء فإنهم يريدون أن يضلوك عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
والمشركون قد حاولوا أن يضلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وربنا أثبت ذلك في كتابه سبحانه فقال: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:١١٣].
فحاول الكفار أن يضلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يلفتوه عن دعوته إلى الله، وأن يشغلوه بأمور من أمور الدنيا حتى يتلهى عن هذا الدين.
كذلك حاول أهل الكتاب أن يلفتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يشككوا المسلمين في ذلك، فكانوا إذا سئلوا من أهدى سبيلاً؟ قالوا: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:٥١]، أي: قال أهل الكتاب للمشركين: أنتم أهدى من محمد سبيلاً.
فعجب الله عز وجل من أمر هؤلاء: كيف أنهم يعرفون الحق ومع ذلك يقولون للمشركين: أنتم أهدى من هؤلاء سبيلاً؟ بل بلغ الأمر أكثر من ذلك، قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:٧٢].
فمن الفتن العظيمة أن الكفار فيما بينهم يتفقون، أن يدخلوا في الدين في الصباح، وبالليل يخرجون من هذا الدين، قال تعالى: {قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:٧٢]، حتى يرى الناس أن هؤلاء يدخلون ويخرجون منه، فيكون الأمر سهلاً، ولكن لم يقدروا على ذلك.
فهذا دين الله ونور من عند الله وبرهان من عنده، فهو حجة قوية دامغة، أما هم فحجتهم ضعيفة داحضة، عرف ذلك هرقل عظيم الروم حين ذهب إليه أبو سفيان فقال له هرقل: إني سائلك عن أشياء فلا تكذبني، وسأله عشرة أسئلة، من ضمن هذه الأسئلة قال هرقل لـ أبي سفيان: هل أتباعه الضعفاء أم الأقوياء؟ قال: بل الضعفاء، قال كذلك أتباع الرسل، ثم قال: هل يرتد أحد منهم سخطاً لدينه؟ فقال أبو سفيان: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فأخبر أن دين الله لا يدخل فيه أحد ويرتد ساخطاً لهذا الدين، طالما أن المسلمين يدخلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرتدون عن هذا الدين، إذاً هو من رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
وكاد هرقل أن يسلم بعد ما سأل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة كسؤاله لـ أبي سفيان: هل كان أحد من آبائه ملكاً؟ فقال له: لا، قال: لو كان أبوه ملكاً لقلت: رجلاً يطلب ملك أبيه، قال: هل هذا الرجل كان يكذب قبل ذلك عليكم؟ فقال له: لا، لم يكذب، قال: ما كنت لأظن أن يدع الكذب على الناس ويكذب على الله، وسأله أسئلة وفي النهاية جمع حاشيته في قصره، وأغلق عليهم باب القصر، وقال لهم: أهل أدلكم على دينٍ هو خير؟ اتبعوا هذا الرجل، فنخروه وصرخوا ورفعوا أصواتهم، وهرعوا إلى الأبواب ساخطين عليه، ولكن هرقل بخبثه قال: ارجعوا إنما كنت أختبر قوتكم في دينكم.
ولم يكن يختبر قوتهم، وإنما أراد أن يرى هل سيكونون معه أم لا؟ فإذا به هو الذي يمشي مع هؤلاء على ما هم فيه من باطل، ويظل على ما هو فيه، فرجعوا وسجدوا له، كأنه أراد من قومه أن يسجدوا له ويطيعوه، ويكونوا معه، لكن يدخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم ويضيع عليه الملك فهو لا يريد ذلك، ولما قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ضن الخبيث بملكه)، خاف هذا الخبيث إن يضيع منه الملك، ولكن دين الله هو الذي يبقى، وتقوى الله هي التي تنفع يوم القيامة.
وملك آخر هو كسرى ذهب إليه خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله سبحانه، فإذا به يمزق الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه)، فقتله ابنه، ولم يزل القتل فيهم حتى تولت عليهم امرأة من بناته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فانكسرت بجنود كسرى بعد ذلك بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الملك مزق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فمزق الله ملكه، وتحكمت فيهم امرأة فضيع الله ملكهم بعد ذلك، ونصر الله الإسلام ونشره، وملك المسلمون بلاد قيصر وبلاد كسرى، وأخذوا ممالك الفرس والروم بفضل الله سبحانه وتعالى.
وهنا في الجنوب ملك الحبشة النجاشي واسمه أصحمة ومعناها: عطية رضي الله عنه، هذا الرجل كان نصرانياً يعرف الحق، ذهب إليه المهاجرون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفيهم جعفر بن أبي طالب أخو علي بن أبي طالب وابن عم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتغيظت قريش وأرادت إرجاع هؤلاء ليعذبوهم وليفتنوهم، فأرسلوا وراءهم مجموعة فيهم عمرو بن العاص وغيره.
وذهب هؤلاء الكفار إلى النجاشي وإلى من معه بهدايا كثيرة جداً، وكان أهل الحبشة يحبون الجلود من بلاد العرب، فأرسلوا إليهم بجلود كثيرة هدايا للملك ولبطارقته وجنوده، فقبلوا منهم الهدايا، وفي اليوم الثاني ذهب عمرو بن العاص إلى ملك الحبشة وكان كافراً وكان ذكياً جداً، ذهب ومن معه إلى الملك يوقعون بينه وبين المهاجرين، فجاءوا يحتجون: إن قوماً نعرفهم من أقربائنا قد تركوا ديننا وصبوا، وجاءوا إلى بلادكم، وقد أرسلنا قومنا إليك لنأخذهم ونرجع بهم إليهم، فإذا بالرجل يغضب ويقول: لا والله، كيف أرسل معكم قوماً استجاروا بي ونزلوا بلادي ضيوفاً، لا والله لا تأخذونهم، فرجعوا مخزيين ثم فكروا ليلتهم وقالوا: نرجع إليهم بحيلة، وكان صاحب الحيلة عمرو بن العاص، وكان ذكياً كما ذكرنا.
وأصبح في اليوم الثاني وذهب إلى الملك، ثم قال للملك: أيها الملك! إن هؤلاء ليسوا على ديننا وليسوا على دينكم، إنهم يقولون في المسيح مقالة شنيعة، والنصارى يعبدون المسيح من دون الله سبحانه، قال: وماذا يقولون؟ قال: أرسل إليهم، فأرسل إليهم، فبات المهاجرون على رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يفكرون ماذا يقولون للملك؟ ثم قالوا: والله ما نقول إلا الحق.
وذهبوا إلى الملك في اليوم الثاني وسألهم وقد جمع البطارقة، وجمع من معه وسألهم: إن قومكم يقولون: كذا وكذا فبأي شيء جئتم؟ فأخبروه أنه جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أوسطهم نسباً، ومن أفضلهم، ومن أشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، جاء بكتاب من عند الله سبحانه وتعالى، وفيه أنه يأمرنا بالتوحيد، ويأمرنا بالصلاة، ويأمرنا بالصدقة، وينهانا عن الفواحش وعن المنكر، قال: هذا دين حسن، فقال له عمرو: اسألهم ماذا يقولون في المسيح؟ فقال: ما تقولون في المسيح؟ قالوا: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:١٧١]، وإذا بالملك يأخذ عصاه أو قشة من الأرض وقال: والله ما زاد المسيح على ما قالوا بمقدار هذه، وكان من حوله ينفرون مما يقول، فقال: انفروا وإن أبيتم، والله لو قدر لي لأذهبن إليه فلأغسلن قدميه صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الرجل الذي قد نصره الله سبحانه وتعالى على قومه، قال لقومه: إن الله لم يستأذنكم حتى يرد عليَّ ملكي، فإن ملكه أخذ منه قبل ذلك، فرده الله سبحانه وتعالى عليه، فقال ونسب الفضل لصاحبه: إن الله قد رد إلي ملكي من غير أن يستأذنكم، والله لا أقول إلا كما يقول، ولو كنت أقدر لتوجهت إليه صلوات الله وسلامه عليه، ولغسلت قدميه.
هذا الرجل الفاضل العظيم أصحمة النجاشي لما توفي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوفاته فقال: (قوموا فصلوا على صاحبكم، إن أخاكم النجاشي قد مات)، فصلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فانظر الفرق بين هذا الملك العظيم، وبين هؤلاء الذين ضنوا بملكهم وضلوا عن سبيل الله سبحانه، فتمزق ملكهم، وهذا الرجل لما توفي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضع منه ملكه، بل ظل ملكاً حتى توفاه الله سبحانه وتعالى، هذا الرجل يخبرنا جعفر أنه بعد يومين من ملكه خرج عليه قومه وأراد بعضهم أن يغيروا عليه، فخرج يقاتلهم، فأشفق الصحابة عليه وخافوا، وكان بينهم وبين مكان القتل نهر، فقالوا: من يذهب فينظر خبر المعركة؟ فالمهاجرون يتمن