[تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة)]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٢٩ - ٣٠].
إن خلق السموات والأرض من آيات الله سبحانه وتعالى لأولي الألباب، وآياته لقوم يعلقون، وقد ذكر الله عز وجل خلق السموات والأرض في كتابه العزيز، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن آيات من آيات الله سبحانه وتعالى، وعن عظيم هذا الخلق، وأمرنا أن نتفكر في خلق السموات والأرض، ونهانا أن نتفكر في ذاته سبحانه وتعالى، وأمرنا حتى نستدل على قدرته وعلى قوته وعلى عظمته أن نتفكر في آياته سبحانه وتعالى، فالإنسان إذا تفكر في الذات الإلهية يأتي إليه الشيطان فيوسوس له، فنهانا عن ذلك، فنحن مأمورون بالتدبر في آيات الله لنعرف من هو الله سبحانه، فهو يخبرنا عن نفسه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:٢٣ - ٢٤].
إذاً: هو الذي يخبر عن نفسه سبحانه، ونحن نؤمن ونصدق، أما أن تتخيل ذلك فلا يجوز؛ لأنه لا تدركه الأفهام، ولا تبلغه الأوهام سبحانه وتعالى، ومهما حاول الإنسان أن يتفكر فلن يصل إلى ذلك، فلذلك أمرنا أن نتفكر في آياته لنستدل على قدرته، وعلى قوته، وعلى عظمته، وعلى أنه وحده الرب الذي يستحق أن يعبد.
فمن آياته خلق السموات والأرض، وقد قال لنا في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:١٦٤].
أي: لمن عندهم عقول، وعندهم قلوب تعقل، وبصائر يرون بها آيات قدرة الله سبحانه وتعالى، فيعقلون أنه لا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له.
وفي سورة آل عمران في آخرها يقول: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٨٩ - ١٩١].
إذاً: تدبروا في آياته وفي خلقه، وعلموا أن الله لم يخلق هذا عبثاً ولم يخلقه سدىً، وإنما خلقه لحكمة منه سبحانه، فتفكروا فيما وراء ذلك، قال تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران:١٩١] إذاً: وراء ذلك حكمة الله، وقدرة الله، وعلم الله وأسماء الله الحسنى وصفاته العلى التي قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) فهم قد تأملوا في آياته، وتأملوا في أسمائه وصفاته، وعرفوا ربهم سبحانه وتعالى فقالوا: ما قدرناك حق قدرك، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:٩١] سبحانه وتعالى.
هذا ربنا العظيم الذي يأمرنا أن نتأمل وأن نتفكر، وهذا نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي يخبرنا أن الأرض وما فيها إذا قورنت بالسموات ما هي إلا كحلقة في فلاة، أو قطرة في ماء، وإذا جمعت السموات والأرض وحاولت أن تعرف حجمها بجوار كرسي الله سبحانه لوجدت أن حجمها كحلقة في فلاة، وكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد علماً بجهله، وقد سمعنا قبل ذلك قوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:٥٣] أي: أنه الحق من عند الله، وأن هذا الكتاب حق، وأن النبي الكريم حق، وأن الساعة حق، وأن ما أنزل الله عز وجل من السماء إلينا شريعةً ومنهاجاً هو الحق، قال تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:٦٠].