للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة)]

قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:٨] فكما جعل للملائكة وهم أكثر عدداً من الخلق السماء قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء)، أي: صوتت من ثقل الملائكة الذين عليها، والسماء أعظم من الأرض بكثير، وإذا قورنت الأرض بالسماء كانت كقطرة في بحر وكحلقة في فلاة، والمخلوقات التي في الأرض لا يبلغون أن يكونوا كعدد ملائكة السماء ففي كل أربع أصابع يوجد ملك، فالسماء امتلأت بملائكة الله سبحانه الذين يطيعونه ولا يعصونه سبحانه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد لله عز وجل) وكما قال الله سبحانه وتعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦].

وبنو آدم في هذه الكرة الصغيرة التي لا تكاد ترى في هذا الكون العظيم منهم من يعبد الله ومنهم من يشرك بالله.

وربنا كان قادراً أن يجعلهم كلهم في الجنة؛ فالله على كل شيء قدير، ولكن أراد أن يكلف هؤلاء العباد وأن يختبرهم: إذا ترك لهم الخيار هل يختارون طريق الله سبحانه والجنة أم أنهم يختارون غير ذلك؟ فالله عز وجل خلق الإنسان ليبتليه، كما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢] فجعلكم مكلفين، وجعل لكم عقولاً هي مناط هذا التكليف، يكلفكم ويختبركم ثم يجازيكم يوم القيامة، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن الله سبحانه يدخل من يشاء في دين الإسلام ليستحق الرحمة ويستحق رضوان الله وجنته يوم القيامة.

قال تعالى: (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)، وأعظم الظلم هو الشرك بالله سبحانه، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣]، فمن ظلم نفسه فكفر بالله وأشرك بالله سبحانه وقع في هذا العذاب، فالظالمون ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير، والولي: هو القريب، أي: ليس لهم من يحن عليهم يوم القيامة من قريب، كابن عم أو ابن أخ، أو يرحمهم ويقف بجوارهم ليدافع عنهم، وليس لهم نصير يدافع عنهم أمام الله، فلا يوجد محامٍ يوم القيامة يحامي على الإنسان، ولا مناصر يمسك السيف ويدافع عنه.

وإن كان الكفار بجهلهم وغبائهم زعموا ذلك، فوقفوا للنبي صلى الله عليه وسلم معاندين، فخوفهم وحذرهم من بطش الله سبحانه، فإذا بهم يصرون على ما هم فيه، وقالوا: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤]، فلما ابتلاهم الله في الدنيا إذا بهم يهرعون للنبي صلى الله عليه وسلم يجأرون بالدعاء ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (ادع لنا ربك يرفع عنا ما نحن فيه)، ويناشدونه الله والرحم يوم أن دعا عليهم وهم في مكة بسنين كسني يوسف في شدة القحط؛ ليذيقهم عذاباً في الدنيا.

فلما حدث بهم ذلك جاءتهم سنة فأكلوا الميتة، وأكلوا الجلود، وأكلوا الكلاب وكل ما وجدوه، فإذا بهؤلاء الكفار يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: نناشدك بالله وبالرحم.

عرفوا الرحم في هذا الوقت وقد قال لهم: عرفتم الآن الرحم؟ لقد قال لهم من قبل: لا تقطعوا الرحم الذي بيني وبينكم، كما قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:٢٣] لكنهم رفضوا.

فلما ابتلاهم الله أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله وبالرحم أن يدعو الله ليرفع عنهم ما هم فيه، فحن لهم صلوات الله وسلامه عليه وأشفق عليهم، فدعا ربه فرفع عنهم ذلك، قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:١٥]، أي: سيرجعون مرة ثانية إلى عدم الإيمان وقد رأوا الآيات والمعجزات وكذبوا بيوم القيامة، وأعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤].

ثم جادلوا فقالوا: وعلى فرض حصول يوم القيامة فمثلما أعطانا في الدنيا سيعطينا يوم القيامة، ونكون نحن المقربين عنده وقد جعلكم في الدنيا فقراء وضعافاً، أما نحن فقد أغنانا وكذلك في يوم القيامة، وعلى افتراض أنه سيعذبنا، فسنتجمع وندافع عن نفسنا.

وقد كان فيهم رجل اسمه أبو الأشدين كان شديداً، فبلغ من قوته أنهم كانوا يضعون جلداً على الأرض، ويضع رجله عليه ثم يشده عشرة منهم حتى يتمزق الجلد ولا يستطعيون سحبه من تحته.

فقال لهم: يوم القيامة علي من التسعة عشر ملكاً الذين هم على النار عشرة، وأنتم عليكم من تبقى وهم تسعة.

انظروا إلى الجهل والحماقة والغفلة! هذا هو تفكيرهم في يوم القيامة، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:١٩]، حتى قتلهم الله فصاروا جيفاً في يوم بدر، وألقوا في القليب، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم على القليب فناداهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟).

فيقول عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تنادي من جثث قد جيفت.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم).

فعرفوا الحق ويوم القيامة سوف يجمعهم الله ليجازيهم على أعمالهم.

نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>