[تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم)]
قال الله عن هؤلاء الكفار: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس:٤٥].
عندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الكفار وكذلك يقول الدعاة للكفار: ((اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ)): من وقائع حدثت في الأمم السابقة قبلنا من المثلات، وما نزل من هلاك على هؤلاء القوم من عذاب من عند الله سبحانه.
فقوله: (ما بين أيديكم): ما تقدم وسبقكم في الأمم السابقة كيف أهلكنا قوم نوح وعاد وثمود أصحاب الأيكة وقوم فرعون ولوط، أرأيتم ما الذي تقدم؟ هذا ما بين أيديكم من السابقين قبلكم.
(وما خلفكم) أي: ما وراءكم من غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه بعد ما تموتون وينكشف أمامكم الحجاب، وترون عذاب الله سبحانه وتعالى، فإذا قيل للكفار: اتقوا النقم التي نزلت في السابقين، واحذروا من غضب الله عز وجل وما أعده للكافرين، واجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية من الإيمان والعمل الصالح لعل الله عز وجل يرحمكم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس:٤٥] كان جواب هؤلاء أنهم لا يؤمنون.
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس:٤٦] فكأن الجواب إذا قيل لهم ذلك: أعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عمن يدعونهم إلى الله سبحانه، وإذا رأوا الآيات البينات لم يزدهم ذلك إلا استكباراً ونفوراً ((وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ)) قرآنية تتلى عليهم، أو آية حسية من آيات الله سبحانه مرئية ((إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ)).
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا} [يس:٤٧] إذا قيل للكافر: أنفق لله سبحانه فقد أعطاك مالاً، فلم لا تعط المساكين والفقراء؟ إذا قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله، قال هؤلاء الكفار للذين آمنوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:٤٧]، أنحن نطعم هؤلاء؟! إذا أراد ربنا أن يؤكلهم أكلهم، ونحن لماذا نرزقهم وأنتم تقولون: ربكم هو الرزاق سبحانه وتعالى، فلو أراد أن يتركهم تركهم، فكأنهم يحتجون بالقدر، الكلام صحيح والمراد به باطل، مثلما قال الكفار: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:٣٥] فاحتجوا بالقدر على الله سبحانه وتعالى، ونقول: صحيح لو شاء الله لهداكم أجمعين، ولكن هل أمركم الله عز وجل أن تحتجوا بقضائه وقدره، أم أمركم بما تقدرون عليه من عمل؟ أنت تنفق مالك في هذا المجال وفي هذا المجال، لم لم تقل: لو شاء الله ما أنفقت، أو لو شاء الله كان فعل كذا؟ أنت تجوع، فتنفق مالك لكي تأكل، فلماذا لا تحتج بالقدر في هذا الشيء وتقول: لو شاء الله لأطعمني؟ هل منهم من يقول هذا الشيء؟ لا.
يحتجون بالقدر فيما يريدون ويتركون الاحتجاج فيما لا يريدون، فهم كذابون يتكلمون على الله بما لا يعرفون.
القضاء والقدر أمرنا أن نؤمن به، وكلفنا الله عز وجل بالعمل وبالأخذ بالأسباب، فتعلم أن الله على كل شيء قدير يقدر الأرزاق لعباده، يرزق من يشاء، ويجعل أسباباً للرزق: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:١٥]، لم لا تجلس في بيتك وتمطر عليك السماء ذهباً وفضة؟ ولكن تخرج لتبحث عن الرزق، فإذا وجدت الرزق فهو قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، فلا تحتج بالقدر على كفر تدعيه وتقول به، فهؤلاء الكفار يقولون لو شاء الله لأطعم هؤلاء الذين نحن نطعمهم، يقولون ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن يأمرهم بذلك.
ولماذا يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يطعموا هؤلاء؟ هو يأمرهم ابتداء بالإيمان، فيقولون: وإذا آمنا ستقول لنا: أخرجوا من أموالكم نفقات، افعلوا كذا وكذا، أتأمرنا بهذا كله؟ تريد أن تأخذ أموالنا لتطعم الفقراء؟ فكأنهم رفضوا الإيمان حتى لا يتحكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لهم: صلوا، صوموا، زكوا، افعلوا المعروف، وهم لا يريدون أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
قالوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:٤٧] كما قالوا قبل ذلك: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:١٤٨] كذلك قال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١]، فالمنافقون قالوا: نشهد أنك رسول الله، والله يشهد بكذبهم في هذا الشيء، فيتكلمون بالكلام الكذب، ويشهدون الله سبحانه على ذلك، ويحتجون بأشياء على ربهم سبحانه وتعالى، ويكذبهم ربهم سبحانه فيما يقولون، يقول: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١]؛ لأنهم قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:٧]، وقال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:٧]، الله الغني عنكم وعن أموالكم، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:١٥ - ١٧].
ولكن حين يأمر الأغنياء أن ينفقوا على الفقراء ليس لكون الله سبحانه لا يريد أن يرزقهم، ولكن لتنتفع أنت بما تنفق على الفقير، فتؤجر من الله الغني العظيم سبحانه، ويعطيك الأجر ويزيدك من رزقه، والمال مال الله سبحانه، فإذا كان معك مال وجبت فيه الزكاة، فالمال مالك باستثناء الجزء الذي هو الزكاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بأدائها، فإذا ملك الإنسان عشرين ديناراً من الذهب يجب عليه فيها الزكاة ربع عشرها، فيلزمه أن يخرج هذه الزكاة، وإذا كان يملك مائتي درهم من الفضة يلزمه أن يخرج ربع عشرها، إذاً أنت لا تملك هذا الجزء بل هو مال الله سبحانه، وأنت تملك باقي المال، وهذا يلزمك أن تخرجه إلى أصحابه.
فالله يرزقك هذا من ماله، أعطاك أنت الألف وأمرك أن تخرج لهذا الإنسان الفقير خمسة وعشرين، فجعل لك أنت سلطة أن تعطي لفلان أو لفلان، أما أن تحتج، وتقول: لو شاء الله لأعطاهم، فقل أيضاً: ولو شاء الله لمنعني ولأعطى هؤلاء، فخف من الله سبحانه وتعالى، وتعامل معه فأعط خلق الله كما أمرك الله سبحانه وتعالى.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:٤٧].