[تفسير قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره)]
وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} [القصص:٢٦]، أي: لأبيها، {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:٢٦]، لماذا تستأجره؟ قالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:٢٦].
ويتضح من ذلك أنها فتاة فصيحة وبليغة في كلامها، وعاقلة، فهي لما ذهبت لتدعو موسى مشت على استحياء وقالت له قولاً موجزاً: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:٢٥]، ومن أجل ألا يقول لها: لماذا؟ ويفتح مجالاً للكلام معها قالت: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:٢٥].
فيذهب موسى عليه الصلاة والسلام وهو لا يأخذ أجراً من الناس على عمل المعروف، كان هذا عمل المعروف، ولا يجوز للمؤمنين أن يطلبوا أجراً على معروف أسدوه للناس، فكيف بموسى عليه الصلاة والسلام، ولكن الجدال ليس معها إنما مع أبيها، فلا بد أن يتوجه إلى أبيها، فإذا وصل إليه تكلم معه.
إن الفتاة تقول لأبيها مشيرة عليه: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:٢٦] وبينت لأبيها السبب، فقالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:٢٦].
كأنها تقول: موسى قوي وأمين، ولكن من حياءها وأدبها في الكلام جعلت تقول ذلك، فعممت الكلام حتى لا يظن أبوها فيها أنها تريد موسى، فقالت: استأجر هذا؛ لأنه لا بد أن تكون صفة من نريد أن نستأجرهم، القوة والأمانة، وهذا الرجل فيه القوة والأمانة.
وقد عرفت هذه الفتاة أنه قوي لأنها رأت موسى وهو يزاحم الخلق بالأنعام والأغنام حتى استطاع أن يصل إلى الماء ويسقي لهما، أو أنه عليه الصلاة والسلام رفع حجراً ثقيلاً لا يقدر على رفعه إلا عشرة من الرجال، وسقى لهما الغنم والإبل.
وعرفت أنه أمين، وذلك لما سارت أمامه، فإذا به يأمرها أن تسير خلفه؛ حتى لا ينظر إليها، فكانت تسير خلفه، وتدله على الطريق وهي الطالبة له، وليس هو الطالب لها، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:٢٦]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر وأبي جعفر: (يا أبتَ)، بفتح التاء، وكان أبو جعفر يقرأ: (يا أبتَ استاجره) مثل قراءة نافع وقراءة أبي عمرو.
قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:٢٦].
أي: إن خير أجير تستأجره من كان قوياً ومن كان أميناً.
وكذلك يعلمنا الله عز وجل كيف نستأجر الأجير، فهو يعلمك حين تستأجر الأجير أن تسلم مالك لإنسان تأتمنه، ويملك قوة على إدارة عملك، فإذا قصرت واستأجرت إنساناً خائناً، فالتقصير من عندك أنت فلا تلومن إلا نفسك؛ لأن الله علمك كما في هذه الآية: أن الأجير الذي يستحق أن يعمل عندك، أو يعينك في عملك، لا بد أن يكون قوياً على هذا العمل، فإن كان عملاً بدنياً كان قوياً في بدنه، وإن كان عملاً ذهنياً كان قوياً في عقله وفي تفكيره، وإذا كان عملاً يحتاج إلى أخذ وعطاء، فالقوة في العقل والقوة في أخذه وفي عطائه وهكذا، إذاً: بحسب العمل الذي يعمل فيه يكون قوياً على هذا العمل، وأميناً لا يضيع العمل ولا يضيع المال، ولا يضيع صاحب العمل، فهو قوي أمين.