تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:٣٠ - ٣١].
لقد أمر الله عز وجل عباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم، وأن يحفظوا فروجهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:٣٠]، فهذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بغض البصر.
وغض البصر: هو خفض البصر وعدم النظر إلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، وبدأ بذكر البصر لأن البصر يوصل الإثم إلى الفرج، فغض البصر يجعل في قلب الإنسان الإيمان، ويحصنه من الوقوع في الزنا؛ لأن البصر يرسل النظرة إلى النفس فتتشهى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فبدأ بالسبب الذي يؤدي للنتيجة وهي الوقوع في الفاحشة.
وكلمة المؤمنون يدخل فيها الذكور بالأصل والإناث بالتبع، وكذلك نقول لمجموعة من الناس: هؤلاء مسلمون، فهذه الكلمة وإن كانت جمع للذكور لكن يدخل تحتها الإناث، وإنما غلب الذكور، فكان من الممكن أن يكتفى بذلك وتكون الآية للمؤمنين والمؤمنات جميعاً، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر المؤمنين الذكور وذكر المؤمنات حتى لا تظن المرأة أن هذا خطاب للرجال فقط، فأكد أنها مقصودة بالآية التي تليها.
قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} توكيد لهذا الشيء، وقد ورد في القرآن أوامر يأمر الله عز وجل المؤمنين بها بصيغة: يا أيها الذين آمنوا فيدخل فيها الرجال والنساء، ولكن عندما يكون الأمر أمراً خطيراً يحتاج لأن ينبه عليه الجميع، وأن كل إنسان سيسأل عن هذا الأمر يوم القيامة، فإنه يذكر الرجال ويذكر النساء، فهنا السورة في أولها ذكرت الزانية والزاني، ولو كان ذكر الزاني فقط لعرفنا أنه يدخل فيه الزانية أيضاً، ولكن للتأكيد على أن الرجل الذي يقع في هذه الفاحشة مسؤول يوم القيامة والمرأة كذلك، وحتى لا يكون لأحد عذر ذكر الله الرجال والنساء، وعندما جاء ذكر حكم كبيرة من الكبائر قال الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:٣٨]، فنص على الرجل ونص على المرأة، وكذلك عندما تظن البعض من المؤمنات أن الرجال مذكورون في القرآن وحدهم بأن لهم أجراً كبيراً، والنساء بالتبع تأتي الآية وتقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} [الأحزاب:٣٥] إلى آخر هذه الآية، فيذكر الرجال ويذكر النساء، ولو ذكر الرجال لكفى ويدخل تحته النساء، ولكن لبيان أن هؤلاء يثابون، وأيضاً هؤلاء يثبن على ما يفعلن من الأعمال الصالحة، ومن هذا الباب جاء التأكيد وأن كل إنسان رجل كان أو امرأة سيسأل يوم القيامة عن هذا الأمر، فالرجل مطلوب منه غض البصر، والمرأة أيضاً مطلوب منها غض البصر.
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، حفظ الفرج: هو أن يستره عن أن يراه من لا يحل له أن ينظر إليه، والمعنى الآخر: ستر الفرج عن الوقوع في الفاحشة.
فعندما قال الله تعالى: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) لأن بصر الإنسان حاسة يحتاج إلى النظر بها رجلاً كان أو امرأة، ولكن الفرج الأصل فيه الستر والحفظ فلم يقل: ويحفظوا من فروجهم، ولو قال ذلك لكان معنىً صحيحاً، لأن الإنسان يحفظ فرجه إلا عما يحل له، ولكن لما كان الأصل في النظر أن ينظر الإنسان، قال: (يغضوا من أبصارهم) أي: بعضاً من هذه الأبصار، وهو النظر المحرم، ويباح ما سوى ذلك، لكن الفرج على العكس من ذلك، فالأصل فيه الستر والحفظ، فلم يقل: (من فروجهم) ولكن قال: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ).
قوله: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (ذَلِكَ): أي: الغض والحفظ.
(أَزْكَى لَهُمْ) أي: أطهر لهم، والإنسان كلما عمل طاعة زكى نفسه، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:٩ - ١٠]، وكلما زكاه الله عز وجل وطهره أورثه إيماناً في قلبه، والإيمان يزيد وينقص، فيزيد الله عز وجل المؤمنين هدىً، ويزيدهم إيماناً بطاعتهم له سبحانه وتعالى، وينقص الإيمان بمعصية الإنسان لربه سبحانه، ولا يزال الإيمان ينقص حتى يضيع بالكلية، لذلك فالمؤمن يحرص على المحافظة على إيمانه بطاعة الله سبحانه، وعلى أن يزداد إيمانه بذكره لله سبحانه وبالعمل الصالح، فغض البصر يجعل للإنسان في قلبه نوراً، ولذلك جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي فالإنسان العاصي يبتعد عنه نور الإيمان، والإنسان المطيع يمتلئ قلبه نوراً، فيعرف ما الذي يفعل ويعرف ما الذي يجتنب.
(ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) أي: غض البصر، وحفظ الفرج.
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ) الخبرة: هي العلم الدقيق بخفايا الشيء وخباياه، وخفايا النفوس وخفايا الأعين، فالله خبير سبحانه وتعالى.
(بِمَا يَصْنَعُونَ) بما يصنع الرجل وبما تصنع المرأة، وبما يتصنع الرجل وبما تتصنع المرأة، فالله خبير بما يبديه هذا الإنسان وبما يخفيه، وبما يصنعه لله عز وجل وما يصنعه لغير الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في حديث بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال: (قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟! قال صلى الله عليه وسلم: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك) أي: أن الأصل الستر وحفظ العورة.
(فقال: الرجل يكون مع الرجل) وكان أهل الجاهلية لا يستحيون من هذا الشيء.
(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن استطعت ألا يراها أحد فافعل) أي إن استطعت أن تستتر ولا يرى سوءتك أحد أبداً فافعل، (قال قلت: فالرجل يكون خالياً؟!) أي: وحيداً في البيت، (فقال صلى الله عليه وسلم: الله أحق أن يستحيا منه من الناس)، فالإنسان يستحيي من ربه سبحانه أن يقعد متجرداً، وإن كان ليس محرماً عليه إذا كان في حمام أو نحو ذلك فتجرد من ثيابه لحاجة، ولكن إذا كان يستحيي من الناس فليستحيي من الله سبحانه وتعالى.