[تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه لا يؤمن بيوم الحساب)]
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة غافر: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:٢٦ - ٣٣].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن فرعون قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:٢٦]، وكان هذا حين أرسل الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات إلى فرعون يدعوه إلى عبادة الله سبحانه، وترك ما هو فيه من كفر وضلال، وعلو واستكبار على الخلق، فقال فرعون: ذروني، أي: دعوني أقتل موسى، (وليدع ربه)، وكأنهم خوفوه من دعاء موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقد رأى قبل ذلك كيف دعا عليهم موسى عليه السلام فابتلاهم الله سبحانه بالسنين ونقص من الثمرات وغير ذلك من الآيات، فخوفه قومه من دعاء موسى فقال: وليدع ربه، فتهور فرعون في هذا الأمر، وهذه سمة من سمات الكفار: التهور في أمر الدعاء، والتهور مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والتهور مع ربهم سبحانه وتعالى، يتبجحون ويتهورون ويطلبون ما فيه هلاكهم.
وقد جربوا مع موسى عليه السلام مرات كثيرة كيف أنه دعا عليهم فاستجاب الله عز وجل دعاءه، فكأنهم خوفوا فرعون من ذلك، لكن الرياسة والملك كانت أهم عند فرعون من أن الناس يخوفونه من دعاء موسى، وأهم عنده من الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: (وليدع ربه)، وبين لهم السبب فقال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:٢٦] ودينهم هو عبادة فرعون، يعبدونه من دون الله، فإنه قد استخف قومه فأطاعوه، استخفهم فأوهمهم أنه إله، وأنه ربهم، وأن له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته، وهم قد كانوا ضعاف العقول، فاستخفهم بطيشه، وبغبائهم، وحماقتهم صدقوه فيما يقول {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:٥٤]، منسلخين عن دين الله سبحانه، خارجين عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
يضحك عليهم فرعون ويخدعهم بكلام باطل ويقول لهم: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:٥١]، انظر إلى خداعه وكذبه، وانظر إلى غباء هؤلاء الذين معه، فهم تركوا التفكر في الآيات التي جاء بها موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وصدقوا فرعون فيما قال لهم، مع أنه لا أحد منهم يعتقد أن فرعون هذا رب، ولا أنه يستحق العبادة، ولكن فرعون قوي، وهو من منطق القوة يكلمهم: أليس لي ملك مصر؟ من ينازعني؟ هذه الأنهار تجري من تحتي، أليس أنا الذي عملت هذه الأنهار؟ إذاً أنا ربكم الأعلى، فيصدقونه، ويقول: اعبدوني، فيعبدونه من دون الله، فقد كانوا ضعاف العقول، أغبياء، وصفهم الله عز وجل بذلك: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:٥٤]، أطاعوه في غضب الله، وفي معصية الله سبحانه وتعالى، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:٥٤].
وكذلك كل قوم يتابعون الأقوى حتى ولو لم تكن معه حجة فهم قوم فاسقون، الذين لا يعملون عقولهم، ولا يفكرون في آيات الله، ولا في شرع الله، ولا في دين الله، وإنما ينظرون من القوي فيقولون: نحن مع الأقوى، نخاف على أنفسنا ونخاف على عيالنا ونخاف على بيوتنا، ولذلك نمشي مع الأقوى حتى ولو كان على حساب الدين، وعلى حساب توحيد الله سبحانه وتعالى.
فهذا فرعون قال: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر:٢٦]، فلا يهمه الدعاء، فاستدعى على نفسه غضب الله سبحانه، واستعجل هلاكه، وكذلك فعل كفار قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم حين دعوا على أنفسهم، فقد قال أبو جهل وأمثاله: اللهم إن كان هذا - يعني الدين الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم- {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:٣٢]، بدلاً من أن يطلبوا من الله الهداية إلى هذا الدين؛ طلبوا العذاب والمطر من السماء الذي يكون فيه هلاكهم، فالكافر يستدعي على نفسه غضب الجبار سبحانه وتعالى، ويقرب نفسه من عذاب النار والعياذ بالله، هؤلاء هم الكفار وهؤلاء أسلافهم من قوم فرعون، وأبو جهل كان فرعون هذه الأمة، وهذا فرعون موسى، فهذا طلب الهلاك وذاك طلب الهلاك، وقال: (وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم)، هذا الدين الذي يدعيه فرعون قال: أخاف أن يبدل دينكم فتطيعون موسى وتطيعون الله سبحانه، (أو أن يظهر في الأرض الفساد)، أي: يظهر موسى في الأرض الفساد، وهو يقصد بذلك دين الله سبحانه وتعالى.
وكذلك الكفار في كل زمان ومكان، ينظرون إلى دين الله سبحانه فينفرون الناس عنه، ويقولون عن أهل الإيمان: هؤلاء هم المخرفون، هؤلاء هم المفسدون، هؤلاء هم الإرهابيون، هؤلاء أصحاب الكتب الصفراء، يرمون أهل الحق بالضلالات وبالباطل، فيقولون عنهم: إنهم أهل الفساد، وقد قالوها عن موسى، وقالوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:١١]، أي: لو كان هذا الدين خيراً ما سبقونا إليه، فصدقهم الجهال وضعفاء العقول، وقالوا: هذا صحيح، فإن فينا فلاناً وفلاناً، كما قال الله تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١]، أي: لو أن القرآن نزل على واحد عظيم من قريش، على أبي جهل مثلاً، أو على عروة بن مسعود الثقفي، لماذا نزل القرآن على محمد؟! هذه نظرتهم الغبية، ولم ينظروا إلى هذا القرآن، وما فيه من إعجاز ومن تحد، فإنه قد تحداهم فلم يقدروا على مثله، فهم لم ينظروا إلى ذلك، وإنما نظروا إلى من الذي نزل عليه هذا القرآن؟ كما نظرت اليهود من الملك الذي ينزل من السماء إلى الأرض بهذا القرآن؟ فإذا كان جبريل فهذا عدونا، ونحن لا نريده وإنما نريد ملكاً آخر أين عقول هؤلاء؟! لم يتفكروا في هذا القرآن، وإنما نظروا بكفرهم وبغبائهم ورأوا أنهم على ملة لا يريدون تركها، فلم يتفكروا فيما جاء من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
حينما قال موسى متعوذاً بربه سبحانه، لاجئاً إليه، معتصماً به: (إني عذت)، أي: لجأت إلى الله سبحانه وتعالى، واعتصمت به سبحانه، واحتميت به: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:٢٧]، متكبر أي: متعظم في نفسه، لا يؤمن بيوم الحساب.