للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وعد الله بأن يرينا آياته]

قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل:٩٣]، هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أن احمد ربك سبحانه على كل حال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءته النعمة قال: الحمد لله رب العالمين، وإذا أصابته مصيبة قال: الحمد لله على كل حال، فكان يحمد ربه كما أمره الله سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [النمل:٩٣]، وفي الآية وعد من الله أن يري الناس الآيات، كما قال في السورة الأخرى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:٥٣]، فالله يري عباده الآيات، ويريهم نتائج ما صنعوا في هذه الدنيا، فمن كفر بعد أن رأى الآيات أذاقه العذاب في الدنيا وهزمه فيها، ثم مآله ومرده إلى عذاب يوم القيامة.

قوله: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل:٩٣] أي: أن الله قد أراكم هذا القرآن وما فيه من الآيات العظيمة، وهذا من نعم الله عز وجل عليكم لتعرفون الآيات، وقد أراكم كيف صنع بالأقوام السابقين، وكيف سيصنع بكم يوم القيامة، وبين كيف سيكون فيه أمركم، وذلك حتى تتدبروا.

ثم تهددكم وتوعدكم فجاء الوعيد على ما قاله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر من الكفار وقال: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:٤٤]، فكان ما حدث لهم في بدر آية من الآيات التي وعدهم الله سبحانه وتعالى أن يريهم إياها، وقد حذرهم الله سبحانه وتعالى من عذاب رب العالمين، وتوعدهم أنه سيبطش بهم في الدنيا، قال سبحانه: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:٢١]، وبذلك عرفوا أنه سيأتيهم عذاب أدنى دون العذاب الأكبر، وبرغم هذا التوعد فقد كذبوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءهم العذاب في يوم بدر، وقام النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر يقول: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:٤٤].

وقد حدث أن أبا سفيان ذهب إلى هرقل عظيم الروم فسأله هرقل عن أشياء، وكان أبو سفيان حينها كافراً، وكان هرقل رجلاً نصرانياً، وكان ينظر في النجوم، وبدأ هرقل يسأل الرجل أسئلة تدل على ذكائه.

فسأله عن هذا النبي وعن علاماته، وهل كان يدعي هذه النبوة قبله أحد؟ وهل كان أبوه ملكاً في يوم من الأيام؟ فسأله عشرة أسئلة أو نحوها، وبعد أن سمع بالإجابة من أبي سفيان جزم بأن هذا نبي رب العالمين سبحانه وتعالى، فصلوات الله وسلامه على رسوله الأمين.

فكانت تلك آية لـ أبي سفيان جعلته يتفكر وهو كافر، ثم رجع وهو يقول: لقد أَمِر أَمْر ابن أبي كبشة، وأبو كبشة قيل: جد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا اسمه، وقيل: كان أبو كبشة زوج مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم فنسب إليه، ومعنى قوله: لقد أمر أمره، يعني: زاد وانتشر وقوي، وما حدث مع أبي سفيان في مرحلة كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالقوي ولا المؤمنون أقوياء.

لكنه بعد أن سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما أخبره علم أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام سيحكم مكة وغيرها ويمكنه الله سبحانه وتعالى.

فقال في نفسه يوماً من الأيام: لقد أمر أمره.

أي: زاد أمره وقوي أمره، حتى عرفه ملك الروم، ثم قال: فلم يزل أمر الإسلام منتشراً منتصراً بعد ذلك، ومع أن أبا سفيان رأى الآية وهو كافر إلا أنه لم يزل على كفره حتى أسلم في فتح مكة، وبعد أن أسلم أبو سفيان أراه الله عز وجل الآيات على لسان هذا الرجل الكافر، فكان خيراً له لو أنه أسلم حينئذ.

وإذا كان أبو سفيان لم ينتفع في هذا الحين، فقد انتفع غيره، فانتفع تميم الداري حين رأى آية من الآيات، فبينما كان هو ومجموعة معه من النصارى في البحر، ووصلوا إلى جزيرة من الجزر لعبت بهم الأمواج، فرسوا على هذه الجزيرة ونزلوا، فرأوا الجساسة، ثم دلتهم على المسيح الدجال، فحدثهم وأخبرهم عن نبي العرب صلوات الله وسلامه عليه، وأنه خير للناس أن يتبعوه، فإذا بـ تميم الداري رضي الله عنه ينتفع بالنصيحة ويذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويحدثه بهذا الحديث الذي يعد آية من الآيات، فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس وقال: (أما إني لم أجمعكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن تميماً حدثني حديثاً قد أعجبني ووافق ما حدثتكم به قبل ذلك)، ثم حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله تميم الداري، وصدق الله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} [فصلت:٥٣]، فالله عز وجل يري الآيات فينتفع بها من يؤمن، ولا ينتفع بها من يصر على كفره: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:٩٣].

والله سبحانه وتعالى ليس غافلاً عما يعمل هؤلاء، ولكن الله حليم سبحانه، يصبر ويحلم عنهم لعلهم يؤمنون، فإذا لم يؤمنوا أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:٩٣]، قرئت بالتاء، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبي جعفر ويعقوب، والباقون يقرءونها بالياء: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [النمل:٩٣].

<<  <  ج:
ص:  >  >>