[تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:٣١ - ٣٥].
في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى عباده أنه يبتليهم، وهذا المعنى تكرر في القرآن، لما خلق الله عز وجل هؤلاء الخلق، والكل يدعي أنه يعبد الله سبحانه، والكل يدعي أنه يحب الله سبحانه وأنه يتبع سبيل الله سبحانه، فاختبرهم الله وابتلاهم وامتحنهم، هل يتبعون طريقه وهم على الحق أم أنهم يدعون ما لا يعملون؟ فأنزل الكتاب وأرسل الرسل ودل على طريق الخير وكلف العباد، وأخبر أنه سيبتلي عباده، فقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:٣٥]، فالشر فتنة للعباد والخير فتنة للعباد، والتكاليف الشرعية ابتلاء للعباد وامتحان لهم، هل يسيرون على طريق الله سبحانه أم أنهم يتنكبون عن هذا الطريق ويعرضون عن الدين حين يرون التكاليف شاقة عليهم وصعبة عليهم؟ فقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد:٣١] فعل مضارع في أوله اللام التي للتوكيد، وفي آخره النون المثقلة دليل على أنَّ هناك قسماً في هذه الجملة، والمعنى: والله لنبلونكم، فهذا واقع في جواب القسم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:٣١] أي: إلى أن نعلم: {الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١].
والله سبحانه قبل أن يخلق العباد قد علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وكل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى، ومن هم أصحاب الجنة، ومن هم أصحاب السعير، ومن يموت كبيراً، ومن يموت صغيراً، ومن يستحق كذا، ومن يستحق كذا، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦] فالله يعلم كل شيء سبحانه.
هنا يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:٣١] أي: حتى نظهر علمنا ذلك، قد علمنا علم غيب والآن علم شهادة، وهو ظهور هذا الشيء الذي علمناه، ويقيناً سيكون ما علمناه عنكم، فالله عز وجل هو الذي خلق العباد، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤].
فالله هو الذي خلقهم، ويعلم أن هؤلاء يستحقون الجنة فهم أهلها، ولذلك خلقهم سبحانه وتعالى، وخلق العباد ويعلم ما يعملون سبحانه، ولكن يوم القيامة حين يقال للعباد: ادخلوا الجنة يقال لهم: عملتم كذا وعملتم كذا، فأنتم تستحقون الجنة، ادخلوا الجنة جزاءً بما كنتم تعملون.
إذاً: جزاءً من الله عطاءً حساباً، ولكن قبل ذلك هي رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وحين يقول: ادخلوا النار لن يقول: خلقتكم للنار، ولا يقول لهم: إني خلقتكم وأفضت من نوري ولم يأتكم شيء من نوري، ولكن يقول: جزاءً بما كنتم تعملون، ولا ينكر العباد مما عملوه شيئاً، إذاً: إدخالهم الجنة هو بأعمالهم وإن كان قبل ذلك برحمة رب العالمين سبحانه؛ لأن الأعمال لا تساوي أن تكون ثمناً لجنة الله سبحانه ولكنها سبب لدخول الجنة.
كذلك الأعمال سبب لدخول النار، استحقوا النار بأعمالهم، ولا يقدرون أن يعترضوا على الله عز وجل يوم القيامة، فلا يقولون: يا ربنا أنت الذي فعلت بنا ذلك، أنت الذي قدرت ذلك، لا يقدرون لأنه يقول: هذه صحيفة أعمالك {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٤].
وحين يكذب المنافقون ويقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:٢٣] يختم على أفواههم وتنطق جوارحهم بما كانوا يفعلون، فتعترف عليهم أعضاؤهم فيستحقون أشد العذاب والعياذ بالله.
إذاً: الله يعلم قبل أن يخلق العباد إلى أي طريق يسيرون عليه ويصيرون من أهله، ولكن: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:٣١] أي: حتى نظهر علمنا، حتى يكون العلم الآن مشاهداً وعلم شهادة، حتى تروا وحتى يرى المؤمنون وحتى يرى الكفار ما يصنع هؤلاء.
فإذا جاءوا يوم القيامة شهد بعضهم على بعض، فلان كان يشرب الخمر، فلان كان يأكل خنزيراً، وفلان كان يفعل كذا، وفلان كان يفعل كذا، والعبد يعترف على نفسه: فعلت كذا وفعلت كذا وفعلت كذا، فيقول الله: هل ظلمك كتبتي؟ هل ظلمك الحفظة؟ يقول: لا، أنا الذي فعلت هذا الشيء.
إذاً: أظهر الله عز وجل ما كان خافياً من علمه في خلق هؤلاء، وأوجدهم فعملوا ما علم الله عز وجل أنهم يعملون، فقوله: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:٣١] أي: حتى نشاهد، فنشاهد ذلك ويظهر ذلك، فنرى أعمالكم، وكما علمناها غيباً نعلمها مشاهدة، ويعلمها المؤمنون وتعلمها الملائكة، ويشهد بعضهم على البعض.
قال تعالى: {الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١] أي: الذي يجاهد في سبيل الله عز وجل والذي يجاهد في غير سبيل الله سبحانه، والذي يصبر على أمر الله، والذي لا يصبر على أمر الله.
إذاً: سنبلوكم بالتكاليف الشرعية: الصلاة، الصيام، الحج، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، نبلوكم بالجهاد في سبيل الله، وبالأشياء التي فيها كلفة وفيها شيء من المشقة حتى ننظر كيف تعملون.
وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد:٣١] بنون العظمة ونون الجمع، قراءة الجمهور: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١] بنون الجمع ونون العظمة تعبيراً عن عظمة رب العالمين سبحانه.
وقراءة شعبة عن عاصم: (وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلوا أخباركم) بالياء المضارعة ضمير المتكلم، فالله عز وجل يقول للغائب: (يبلوكم الله سبحانه)، فقوله: (وليبلونكم) أي: الله سبحانه.
وقراءة رويس عن يعقوب: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوُ أخباركم) فيقرأ للاستئناف هنا: (ونبلوُ أخباركم)، فعلى قراءة الجمهور: (ونبلوَ أخباركم) عطف على منصوب، وقراءة رُويس بدء بجملة جديدة، يعني: ولا يزال الله عز وجل يبلوُ أخباركم سبحانه.
إذاً: المعنى هنا: سيمتحنكم الله سبحانه وتعالى، وسيختبركم الله سبحانه بالتكاليف الشرعية حتى يظهر من الذي يجاهد نفسه ويجاهد هواه ويجاهد شيطانه ويجاهد المنافقين والكفار، ومن الذي يجاهد في سبيل الله، ومن الذي ينكص على عقبيه ولا يفعل ذلك، ومن الذي يصبر على المشاق وعلى التكاليف الشرعية وعلى أمر الله، ومن الذي لا يصبر على ذلك.
وقد قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٢ - ٣].
فالله سبحانه وتعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:٢] كذا هملاً وسدى؟ لا، بل لابد أن نبلوكم وأن نفتنكم ونختبركم؛ حتى يظهر الجيد ويتميز من الرديء، قال: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١] يعني: نظهر أعمالكم.
إذاً: (يبلوكم): يختبركم، (ونبلو) بمعنى: نظهر ونكشف ما بداخلكم من أسرار فتكون معلنة وتكون منظورة.