للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[معنى قوله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم)]

يقول سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:٢٣] أي: إذا تكلم الله سبحانه أخذت الخلق الهيبة من الله سبحانه وتعالى، حتى كأنهم يغشى عليهم أو يصعقون من الخوف من الله سبحانه وتعالى، فيفزع عن قلوبهم، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} [سبأ:٢٣] للبناء للمجهول، وهذه قراءة الجمهور: وقراءة ابن عامر ويعقوب، (حتى إذا فَزَعَ) أي: أزال الفزع عن قلوبهم، و {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} [سبأ:٢٣] أي: أزيل الفزع عن قلوبهم.

فهم فزعوا حين تكلم رب العزة سبحانه وخافوا منه وأخذتهم هيبته، ففزع عن قلوبهم، وكشف عنها الخوف، وأذن لهم أن يشفعوا فيمن أذن الله عز وجل له بالشفاعة، فيقول بعضهم لبعض: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:٢٣] أي: فيقولون: {قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ:٢٣]، أذن لنا سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:٢٣].

وهل هذا يوم القيامة فقط فزع عن قلوبهم، أو في كل وقت؟ الظاهر من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا في كل وقت يحدث من ملائكة الله عز وجل الذين هم في السماء، وقد جاء عند الترمذي من حديث أبي هريرة وهو صحيح، قال: (إذا قضى الله في السماء أمراً).

أي: إذا أراد الله شيئاً نادى سبحانه وتعالى بذلك الشيء: فيفزع جميع من في السماء لما قضاه الله سبحانه، ويظنون أن الساعة قد قامت، ويخافون من عذاب الله سبحانه وتعالى، فيصعقون، فأول من يفيق جبريل فيأمره الله سبحانه وتعالى أن افعل كذا وكذا، فينزل جبريل على الملائكة، ويفزع عن قلوبهم، أي: يصرف الفزع عن قلوبهم، فيسألون جبريل: ماذا قال ربنا؟ فيقول جبريل: قال الحق يعني: قضى ربنا بالحق، يقول أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله في السماء أمراً، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنها سلسلة على صفوان) أي: أنه من شدة فزع الملائكة من ربها سبحانه وتعالى، تضرب بأجنحتها، فيحدث صوت فضيع، مثل ضرب السلاسل على الحجر أو على الحديد.

وذكر في هذا الحديث أن الشياطين يكون بعضها فوق بعض، تسترق خبر السماء، فإذا وصل أمر الله إلى السماء الدنيا، يشاء الله عز وجل أن تسمع بعض الشياطين ما تقول الملائكة، فتخطف الخبر من السماء، ويرسل الله عليهم شهاباً يحرق من يشاء الله سبحانه، ويشاء الله أن يصل الخبر إلى الأرض، فتلقيه الشياطين إلى الكهنة من الإنس، فإذا بالكاهن يحدث ويقول: سيحدث في يوم كذا كذا بما أخبره به الشيطان، ويزيد الشيطان على ذلك مائة كذبة، فيخبر بها الكاهن أيضاً، فيجد الناس ما ذكره الكاهن من أنه سيحصل في اليوم الفلاني كذا، فيزعمون أن الكهنة يعلمون الغيب، وهذه من الفتن والابتلاءات التي يبتلي الله عز وجل بها عباده.

ثم يقولون: ألم يخبركم أنه سيحصل يوم كذا وكذا، وقد صدق فيه، فصدقوه، فيصدقون الكهان، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الكاهن لا يعلم شيئاً من الغيب، وأنه لا يجوز لأحد أن يصدق الكاهن قال: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول: فقد كفر بما أنزل على محمد).

ولو أن كلام الكهنة كله كذب، ما احتاج الناس أن يقول لهم رسول الله: كلام الكهنة كذب، ولكن الله عز وجل يشاء أن يقولوا بالشيء من الصدق، ابتلاءً للعباد، هل سيتبعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقول أم سيتبعون الكهنة ويصدقوهم فيما يقولون؟ فلابد من هذا الابتلاء للخلق، وهو لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى.

ولما خلق الله عز وجل الجنة والنار، أمر جبريل أن يذهب وينظر، فنظر إلى الجنة فقال: والله لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ويخلق الله عز وجل النار ويقول: اذهب فانظر، فينظر جبريل إلى النار فيقول: والله لو سمعوا بها ما دخلها أحد.

ثم إن الله أحاط الجنة بالأشياء المكروهة التي يكرهها الإنسان، فهو يكره أن يجاهد في سبيل الله، ويكره أن يؤذى، ويكره أن يصبر على المخاطر التي حفت بها الجنة؛ لأن الأعمال التي تدخل الجنة هي الأعمال الشاقة الصعبة، ويأمر جبريل أن ينظر فيقول: والله أخشى أن لا يدخلها أحد! أي: لأنها حفت بما يكرهه الناس، ثم يقول لجبريل: اذهب وانظر إلى النار، وقد أحاطها بالشهوات، فيذهب وينظر، ويرجع إلى ربه ويقول: يا رب! أخشى أن يدخلوها كلهم.

إن دخول الجنة ليس بالأمر السهل، فمن أراد أن يدخل الجنة فعليه أن يؤمن ويصدق ويبتلى فيصبر، فيرى الشهوات أمامه، ويتركها خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ويرى أعمال الخير وهي شاقة صعبة عليه فيعملها، فيصوم في اليوم الحار، ويتذكر الجنة ونعيم الجنة، والموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤]، وحين تدنو الشمس من الرءوس، فهذه الشمس البعيدة عنا، التي تحرق الرءوس في الصيف، تدنو من رءوس الناس يوم القيامة، ويسيل العرق من الإنسان حتى يغطي من بعض الناس رءوسهم، لأنهم لم يبذلوه في الدنيا خوفاً من الله وطاعة لله سبحانه وتعالى.

وفي هذا الموقف يظل الله عز وجل من شاء من خلقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، شاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد -إذا خرج منها حتى يرجع إليها-، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، وإمام عادل)، فالإنسان حين يتذكر ذلك، يهون عليه أن يصوم في يوم حار؛ لأنه سيلقى ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة، فيؤجره على ذلك، ويكون حقاً على الله أن يسقيه في يوم العطش الأكبر؛ لأنه أظمأ نفسه لله عز وجل في يوم حار، فالله سبحانه وتعالى يبتلي العبد بالأعمال الصالحة، فيجدها صعبة عليه، ولا يجد الذين يعينونه على الخير إلا قليلاً، والذين يمنعونه من الخير كثير، فهل تصبر على الخير وتعمله أم أنك تبتعد عنه وتتركه؟ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:٧].

والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا كيف تخاف الملائكة من أجل أن نتعظ، فالملائكة لم تعص الله سبحانه وتعالى، فإذا كان يوم القيامة وأفاقت الملائكة قالوا لله عز وجل: ((سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك))، فكيف بنا نحن الذين نخطئ أحياناً ونصيب أحياناً، نحن الذين نعصي الله سبحانه وتعالى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا وأن يرحمنا، وأن يجعلنا من عباده المقربين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>