ثم نهاه عن اتباع الهوى فقال تعالى:(وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، فإن هؤلاء الكفار سيدعونك إلى البعد عن دين الله سبحانه، فاحذر أهواء هؤلاء الكفار، ومن ذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا أردت أن نتبعك فلا يليق بنا أن نجلس مع هؤلاء الفقراء، فاجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً، ولا يتحدث العرب أننا جلسنا مع هؤلاء الفقراء والصعاليك، فكاد صلى الله عليه وسلم يميل لذلك، فأنزل الله تعالى:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:٥٢]، فالله عز وجل يحذر نبيه صلوات الله وسلامه عليه: إذا طردت هؤلاء فستكون من الظالمين، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يطردهم ظلماً وعدواناً واستكباراً، فهذا مستحيل، ولكن كونه يطردهم، أو يمنعهم، أو لا يقعد مع هؤلاء الذين يذكرون الله عز وجل، فإنه يعتبر في حق النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً.
وكذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد منا التوحيد؟ اعبد آلهتنا وادع إليها، ونحن نستجيب لك وندخل معك في هذا الدين، فيقول الله عز وجل له:(وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) فلا يوجد في الدين قاعدة اسمها (الغاية تبرر الوسيلة)، أي: لكي يدخل هؤلاء في الدين فلا مانع أن نشرك معهم اليوم لكي يسلموا معنا غداً، فالدين دين خالص لله سبحانه وتعالى، فإن قبلوا فالحمد لله، وإن أعرضوا فعليهم الجزاء من الله عز وجل، والدين دين قيم، ودين قوي، ودين لا يحتاج إليكم، بل أنتم الذين تحتاجون إلى الله الغني الحميد، يقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر:١٥]، سبحانه وتعالى، فهو مستغن عن العباد وعن عبادتهم، وأنزل الدين لتنتفعوا أنتم، لا لينتفع هو سبحانه وتعالى، فلذلك يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:(وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ).
وأبو سفيان حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبيل فتح مكة، مر مع أبي بكر رضي الله عنه على مجموعة من المسلمين الذين كانوا مستضعفين قبل ذلك رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وإذا به ينظر إليهم وقد صاروا بعز في هذا الإسلام، فينظرون إليه ويقول أحدهم وهو بلال أو غيره رضي الله عنهم: أما أخذت سيوف الله من رقاب أعداء الله؟ أي: أنه بقي من رقاب أعداء الله أمثال أبي سفيان، وكان شيخ الكفار في كفره، ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله تبارك تعالى عنه.
فلما قالوا ذلك غضب أبو بكر رضي الله عنه، وقال: أتقولون هذا لشيخ قريش؟! فـ أبو بكر، يريد أن يتألفه ليسلم ويدخل في دين الله عز وجل، فبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لـ أبي بكر:(ارجع إليهم فصالحهم، لعلك تكون أغضبتهم، إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك) أي: إن كنت أغضبت هؤلاء الفقراء من المسلمين الذين كانوا يؤذون في مكة وكان يؤذيهم أبو سفيان ومن معه فقد أغضبت ربك، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وهو ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ، ورفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، فقال لـ بلال ومن معه: لعلي أغضبتكم يا إخواني، فقالوا: لا، غفر الله لك.
فالله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس مع هؤلاء الفقراء، وألا يتركهم ليذهب إلى هؤلاء الكفار حتى لو كان الثمن دخولهم في الدين، فأمره الله ألا يجعل لهؤلاء مجلساً ولهؤلاء مجلساً، وإذا أرادوا فليجلسوا مع هؤلاء الفقراء، وإذا لم يريدوا فلا يجلسوا فهم الذين يخسرون وليس المؤمنين.