[تألف النبي صلى الله عليه وسلم بعض قريش وإعطاؤهم من الغنائم يوم حنين]
إن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يراعوا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتعرضوا لهم بشيء من التوبيخ أو بشيء من التعيير؛ فإنهم آل بيته صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه تألف البعض من قريش، فإذا بالأنصار يحدث في قلوب بعضهم شيء من الحزن: كيف لما فتح الله عليه يبدأ بقرابته وقبيلته ونحن أهل المدينة الذين عملنا كذا وكذا؟ فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهم من طريق عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: (لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قام النبي صلى الله عليه وسلم وقسم الغنائم في المؤلفة قلوبهم)، ولاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة جمع أهلها قال: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم) فهم الآن في ضعف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعاملهم مثل معاملتهم له، بل قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
فعفا عنهم صلوات الله وسلامه عليه، فأسلم خلق كثير من أهل مكة، وكان جيش النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من المدينة لفتح مكة كان عدده عشرة آلاف، فإذا بأهل مكة يمدون النبي صلى الله عليه وسلم بألفين من الجنود يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مكسب كبير للإسلام، فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدين، وخرجوا معه إلى الطائف وإلى هوازن في حنين، وأفاء الله عز وجل وفتح على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أعطاهم الله درساً هنالك في حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:٢٥] فلما غنم صلوات الله وسلامه عليه وبدأ يوزع المغانم، وزع على أصحابه على من يستحق، ولكن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم البعض تأليفاً لقلوبهم ومنع البعض الآخر، فأعطى بعض كبار قريش، فتكلم بعض الأنصار، يقول عبد الله بن زيد بن عاصم: (فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس) يعني: وجدوا في أنفسهم وحزنوا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أقرباءه وقبيلته، ولم يعطنا نحن؟! وفي رواية الإمام أحمد من حديث أبي سعيد قال: (وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة) يعني: بدءوا يتكلمون ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهله قرابته، ولم يعطنا، والنبي صلى الله عليه وسلم حاشا له أن يقسم بغير العدل، فهو صلى الله عليه وسلم لا يطلب شيئاً من الدنيا، وقد نزلت هذه الآيات من قبل ذلك تقول لهم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الشورى:٢٣] أي: لا آخذ أجراً على الدعوة إلى الله عز وجل، ولكن أطلب منكم المودة في القربى.
قال: (فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فقال سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم) أي: أصابهم حزن أنك أعطيت القرشيين ولم تعط الأنصار من هذا الفيء الذي أصبت، فأنت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، وكأنهم نسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام أخبرهم (أني أعطي الرجل وغيره أحب إلي) يعني: أنا أعطي الإنسان وغيره أحب إلي حتى أتألفه، وأدع هذا للإيمان في قلبه، فهذا قلبه ممتلئ بالإيمان عامر غير محتاج إلى أن أتألفه على هذا الدين، ولكن البعض الآخر أعطيه من أجل أن يثبت على دين الله سبحانه ولا يتزعزع ولا يتزلزل.
فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل سعد بن عبادة فقال: (قد وجدوا عليك وقالوا: قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: يا رسول الله! ما أنا إلا امرؤ من قومي) يعني: أنا واحد منهم، لقد كانوا صادقين رضوان الله تعالى عليهم، لا يكذبون، فلم يقل له: لقد أنكرت عليهم وعملت كذا، ولكن قال: أنا واحد منهم.
فقد كان سعد بن عبادة رضي الله عنه رجلاً صادقاً وهو سيد الخزرج، أما سعد بن معاذ سيد الأوس فكان قد قتل شهيداً أصابه سهم في أكحله يوم الخندق، فدعا ربه سبحانه وتعالى وقال: (إن كنت أبقيت في قتال المشركين شيئاً فأبقني لهم، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها) فقبض في ذلك بعدما حكم في بني قريضة، فكان استشهاده قبل حنين بحوالي ثلاث سنوات رضي الله تعالى عنه.
فقال سعد بن عبادة: (ما أنا إلا امرؤ من قومي، قال صلى الله عليه وسلم: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)، فجمع الأنصار، فاجتمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا، وحضر بعض المهاجرين فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحضر غيرهم فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟).
هذه المعاتبة الرقيقة منه صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء، يعني: أنتم نسيتم عندما جئتكم وكنتم تعبدون أحجاراً فهداكم الله على يدي، ثم قال: (وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم) أي: كنتم عالة فقراء ففتح الله الفتوح عليكم فأغناكم الله بي، وكنتم تقتتلون فيما بينكم الأوس مع الخزرج فاجتمعتم مع بعض وصرتم الأنصار، فألف الله بين قلوبكم بي، (قالوا: الله ورسوله أمن وأفضل) فهم اعترفوا بالحق، وقالوا: لله المنة ولك علينا المنة، وكنا مخطئين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ فقالوا رضوان الله عليهم: وبم نجيبك يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك) انظر للإنصاف من النفس، وإن كان الحق كله معه صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك يقول هذا تأليفاً وترضية للأنصار، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟) يعني: أوجدتم في أنفسكم على حقير من أمر الدنيا تألفت به هؤلاء؟ هل حزنتم من أجل ذلك؟ ثم قال: (أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟) أي: ألا يكفيكم أن الناس يرجعون بالشاء والبعير والغنائم وترجعون أنتم وأنا معكم إلى دياركم؟ فلقد فتحت مكة، وكان بإمكاني أن أمكث في مكة بلدي، لكن لا، بل أرجع معكم معشر الأنصار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار)، يعني: لولا فضيلة الهجرة وأني مهاجر من مكة إلى المدينة والهجرة لا يعدلها شيء، لقلت: أنا من الأنصار، أي: أنا محمد صلى الله عليه وسلم المدني الأنصاري، فنقول إذا نسبنا النبي إلى البلاد: هو المكي ثم المدني صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عاش في مكة وولد فيها وتربى فيها صلى الله عليه وسلم فهي بلده، ثم هاجر فصار مقره المدينة فصار مدنياً بعد ذلك صلى الله عليه وسلم، فلو شاء النبي صلى الله عليه وسلم لكان امرأً من الأنصار لا من المهاجرين، ولكن الهجرة لها المنزلة العظيمة عند الله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار بهذه الدعوة العظيمة المباركة التي ظلت فيهم وفي أبنائهم بهذا الأمر العظيم الذي فعلوه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم الذي قاله ثم بكى الأنصار حين سمعوا ذلك، وقالوا: (رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً) أي: رضينا أن يأخذ الدنيا ونحن نأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام، ويكفينا هذا الحظ الأعظم لنا.
وقد جاء في بعض الروايات أن بعض الأنصار كأنه عير العباس فقالوا: أسلمنا قبلك، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حزن لذلك وأمرهم أن يحبوا آل بيته صلى الله عليه وسلم كما يحبون النبي صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: فيدين الإنسان المؤمن بحب النبي صلى الله عليه وسلم، وحب المهاجرين، وحب الأنصار، وحب آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه، الذين وصى الله عز وجل بهم.