للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[قصة تتويج داود الملك والنبوة]

يذكر الله سبحانه وتعالى أنه آتى داود فضلاً، وقد فصل شيئاً طويلاً من هذا الفضل في سورة البقرة وفي هذه السورة الكريمة، قال الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٦]، ((إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً)) فهنا: فيهم الملوك والأنبياء، النبي مختص بالشريعة يعلم ويؤدب ويربي، ويأتيه الوحي من الله عز وجل، والملك يقاتل ويسوس أمرهم، والنبي من سبط لاوي فيقولون لهذا النبي: ((ابعث لنا ملكاً)) عين لنا ملكاً من السبط الآخر الذي هو سبط يهوذا يكون ملكاً علينا.

قوله: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٦] كانوا مغلوبين مقهورين، قهرهم العمالقة الذين يعيشون في فلسطين، وهي قبيلة تسمى بذلك، فهم قهروا بني إسرائيل وأخذوا أبناءهم وأخذوا نساءهم، وأذلوهم غاية الذل، وكان هذا التحكم فيهم بسبب كفرانهم نعم الله سبحانه وتعالى عليهم، فكلما أعطاهم نعمة كفروا بهذه النعمة وتفرقوا، وحسد بعضهم بعضاً على ما آتاهم الله عز وجل من فضله، فسلط الله عز وجل عليهم غيرهم.

فهؤلاء لما وجدوا أنفسهم صاروا أذلة في الأرض قالوا لنبي لهم اسمه (شمويل) أو (شمعون): {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:٢٤٦] أي: أنتم كعادتكم، كلما ربنا يفرض عليكم القتال تفرون منه وتتركونه قال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:٢٤٦] يعني: بعد هذا الذل الذي نحن فيه هل سنترك القتال أيضاً؟! لا، بل سنقاتل في سبيل الله فابعث لنا ملكاً، قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:٢٤٧].

وطالوت كان من سبط بنيامين، وليس من سبط الذين فيهم الأنبياء، ولا من السبط الذين فيهم الملوك، وإنما كان من سبط بنيامين أخي يوسف النبي لأمه وأبيه عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فبعث لهم طالوت ملكاً فرفضوا، حيث كان طالوت دباغاً، وقيل: كان سقاء، يعني: كانت مهنته عندهم مهنة حقيرة، فكيف يكون هذا ملكاً علينا بعد أن كان دباغاً وسقاء؟! فقالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:٢٤٧] يعني: هم يطلبون ومع ذلك يتكبرون ويرفضون! أنتم مهزومون وأذلاء والآن ترفضون ما أمر الله عز وجل به نبيكم أن يعين عليكم هذا؟! {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:٢٤٧]، فربنا اصطفاه عليكم أنتم، فهو أفضل منكم ((وزاده بسطة)) فأعطاه علماً كثيراً، ولكن لم يعطه النبوة، وأعطاه جسماً عظيماً، فكان طويلاً عريضاً يصلح للقتال في سببل الله عز وجل، وجعل له آية: فقال تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:٢٤٨] فإذا بهم يجدون التابوت الذي قد ضاع منهم، وفيه التوراة وبقية {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة:٢٤٨] كان قد أخذه أهل فلسطين منهم، وكانوا عباد أصنام.

فبنو إسرائيل كانوا إذا حاربوا قدموا التابوت فنصرهم الله عز وجل ببركة ما فيه، فلما ضاع منهم التابوت كانوا مهزومين أذلاء أمام أعدائهم، فإذا بالله عز وجل يجعل البركة لهذا الإنسان الذي يتولى قيادتهم بأن يظهر التابوت ويرجع إليه مرة أخرى، والملائكة تحمله وتأتيهم بهذا التابوت، فلما رأوا التابوت عرفوا أن طالوت هو الذي يستحق أن يكون ملكاً فرضوا بذلك، وجهزهم لقتال أعدائهم، ولما خرجوا لقتال الأعداء، ومروا بنهرٍ منعهم أن يشربوا من هذا النهر {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:٢٤٩]، احذروا! لا أحد يشرب من هذا النهر، وهذا أمر من الأوامر التي يأمرهم بها، فهو ينفذ أمر النبي الذي أمره بذلك، لا أحد يشرب من هذا النهر إلا أن يغترف غرفة بيده، والغرفة: ملء الكف، يغرف بيده ويشرب، لكن أن يأخذ ماءً كثيراً من النهر فلا: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ} [البقرة:٢٤٩]، أكثرهم شربوا {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:٢٤٩]، كانوا ألوفاً مؤلفة في الجيش الذي مع طالوت، وجاء في الصحيح عن أبي موسى الأشعري عندما ذكر عدد أهل بدر قال: (كنا نُحدث: أن عددهم كعدد جنود طالوت)، أي: كعدد المؤمنين مع طالوت، فالذي بقي من الألوف المؤلفة مع طالوت الملك حوالى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر رضي الله تبارك وتعالى عنهم.

{فَلَمَّا جَاوَزَهُ} [البقرة:٢٤٩] قال هؤلاء: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:٢٤٩]، جالوت هو قائد أعدائهم، {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:٢٤٩]، فكان هذا القتال بأمر الله عز وجل، والنصر بيد الله سبحانه، وكم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:٢٤٩] وهنا يقدر الله عز وجل أمراً من الأمور ليظهر داود النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

داود كان راعي غنم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأراد الله عز وجل أن يصطفيه ويجعله نبياً، وأن يجعله ملكاً، ويسبب الأسباب سبحانه وتعالى، فـ طالوت هو القائد والملك على بني إسرائيل، وعدد بني إسرائيل ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً يقاتلون، فإذا بـ جالوت ومن معه من جنود الكفار عباد الأصنام يأتون ويتواجه الفريقان، فطلب جالوت أحداً يبارزه، فخاف جميع بني إسرائيل، فقال طالوت: من يخرج إليه ليقتله وسأزوجه ابنتي ويكون شريكاً لي في الملك؟! فإذا بداود النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول: أنا أخرج، فاستصغروه لسنه، وأيضاً كان داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قصيراً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فاستصغروه ونظروا إليه فاحتقروه، أهذا يقتله؟! قال: أنا قاتله بإذن الله، وكان يجيد الرمي بالمقلاع، والمقلاع: هو الحجر يلف على الخيط ثم يحذف، فكان يصيب بالمقلاع، وكان رميه عظيماً به، وإذا بالله عز وجل يعينه، فيخرج بمقلاعه إلى جالوت، فيستصغره جالوت ويحتقره ويقول: ارجع فإني لا أريد أن أقتلك، قال: ولكني أريد أن أقتلك، فرماه بالمقلاع، فشجه فقتله، وفر جميع الألوف الذين كانوا مع جالوت، وانتصر بنو إسرائيل بفضل الله سبحانه وتعالى، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله.

ثم ظهر أمر داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجعله طالوت شريكاً له في الملك، فصار ملكاً على بني إسرائيل مع طالوت، وزوجه بابنته، وإذا بالله عز وجل يصطفيه فيجعله نبياً من أنبيائه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فصارت له النبوة والملك، وانتهى أمر طالوت، ومالت بنو إسرائيل إلى داود النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام في قصة طويلة جداً، لكن الغرض أن الله عز وجل مكن له بذلك بعد أن كان راعي غنم، فقتل قائد جيش الكفار، فإذا ببني إسرائيل يجعلونه ملكاً عليهم، والله عز وجل يجعل له النبوة، وكان داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من سبط يهوذا الذين فيهم الملك، فصار لهم الآن الملك، وصار له الآن أيضاً النبوة، وفضله الله سبحانه وتعالى، فهذا مختصر بدء أمر داود النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ:١٠] هذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى، حيث كان راعي غنم فجعله الله عز وجل نبياً وملكاً، فمنّ عليه بالفضل العظيم منه، وأنزل عليه الزبور، وكان كتاباً عظيماً يقرؤه ويتلوه، وأعطاه الله من جمال الصوت ما ذكر سبحانه أن الجبال تؤوب معه، وأن الطير تقف فوقه فتسمع لجمال صوته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>