[تفسير قوله تعالى (يطاف عليهم بصحاف من ذهب)]
ويذكر الله عز وجل شيئاً من ذلك، يقول سبحانه: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف:٧١] أي: يدخلون الجنة ويطاف عليهم بصحاف، والصحاف: جمع صحفة، والصحفة: القصعة الكبيرة الواسعة، أو الإناء الكبير، ومن الصحاف في الدنيا ما يكفي عشرة يأكلون فيها، ومنها ما يكفي دون ذلك وأكثر من ذلك.
فهنا يطاف على أهل الجنة بصحاف كبيرة.
فقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} [الزخرف:٧١] يمتعون في الجنة بذلك، والصحاف هذه من ذهب، ولذلك حرم علينا الذهب في الدنيا، فإذا أكلت أو شربت في ذهب حرمت من الذهب يوم القيامة.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها).
أي: لا تشرب في كوب من ذهب ولا من فضة، (ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا) أي: للكفار يستمتعون بها في الدنيا.
(ولكم الآخرة) فلا تشبهوا دنياكم بآخرتكم، فالإنسان المؤمن يزهد في الدنيا لينال ما عند الله عز وجل في الآخرة.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من شرب في صحاف أو أكل أو شرب في صحاف الذهب في الدنيا فهو محروم منها يوم القيامة، كأنه لا يدخل هذه الجنة.
كذلك الذي يلبس الحرير في الدنيا يحرم منه يوم القيامة، كأنه لا يدخل الجنة.
وقوله تعالى: {وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:٧١] مفرد الأكواب: كوب وفرق بين الكوب والإبريق، فالإبريق الذي له يد يمسك بها، لكن الكوب مستدير، تشرب من كل نواحيه.
وقوله تعالى: {وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:٧١] أيضاً من ذهب ولكن لا يكرر فالمعنى مفهوم منها، وهي كقوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:١٥ - ١٦] إذاً: الكوب مقدر على قدر ما يحتاج إليه صاحبه، إذاً: يشرب من الكوب الذي يهواه.
فقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:١٦] أي: مقدر لك ما تريده وما يعجبك، واشرب ما يروق لك.
وقوله: {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} [الإنسان:١٥] أي: من الزجاج، وفي الجنة ذهب، وبيوت من ذهب ترى ما في داخلها.
وذهب الدنيا كثيف غليظ مستحيل أ، تخترقه ببصرك، ولكن ذهب الجنة تخترقه ببصرك، وهذا شيء عظيم جداً.
فقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:١٥ - ١٦] وهنا يذكر لنا الذهب، فلهم هذا ولهم ذاك، قال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:٧١] أي: في الجنة ما تشتهيه الأنفس، قرأها بالهاء في آخرها نافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم: {مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:٧١].
وباقي القراء يقرءون: (وفيها ما تشتهي الأنفس) بغير هاء في آخرها.
فقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:٧١] أي: كلما تشتهيه نفسك تجده في الجنة.
وقوله: {وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:٧١] وفي الدنيا قد تجد الطعام الذي تشتهي أن تأكله ولا تحب النظر إليه، ولكن أهل الجنة في الجنة إذا رأوا بأعينهم الشيء تلذ الأعين بذلك، وتشتهي الأنفس ذلك، فالمنظر طيب وجميل، والمطعم جميل وحلو.
وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:٧١] أي: وأنتم في هذه الجنة خالدون لا تخرجوا منها أبداً.
وجاء في الحديث في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمختطون، قالوا: فما بال الطعام؟ جشاء ورشح كرشح المسك).
وهذا نعمة من الله عز وجل، إذ يطوف عليهم خدم الجنة يأتونهم بما يشاءون من طعام وشراب ويخرج منهم رشح له رائحة طيبة جميلة كالمسك.
قال: (يلهمون التسبيح) وهم في الجنة والتحميد والتكبير.
وقال: (كما يلهمون النفس) والإنسان في الدنيا يستمتع بذكر الله سبحانه وتعالى، وفي الجنة أشد من ذلك كما تستمتع بنفسك في الدنيا، فأهل الجنة يلهمون التسبيح والتكبير والتحميد كما يلهم الإنسان في الدنيا النفس.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وأن يجعلنا من أهل جنته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.