[تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم)]
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:١٣]، تقدم في الشورى ذكر الله عز وجل نحو ذلك، وهنا يذكر أن الاستقامة هي الإيمان بالله والاستقامة على طريق الله سبحانه، فهؤلاء وحدوا الله سبحانه وتعالى، ((ثُمَّ اسْتَقَامُوا))، وكأن هذا هو ترتيب من الله سبحانه فلا يكون العمل إلا بعد الإيمان، فيعمل المؤمن بما آمن به وصدقه وأيقن أنه حق، وفي هذا بيان أنه لا يقبل عمل أصلاً إلا بهذا الإيمان، فأول ما يبدأ به هو الإيمان والتوحيد، ومهما عمل العبد من عمل فهو غير مقبول إلا أن يكون معه أصل الأصول وهو الإيمان بالله سبحانه.
وقد جاءت (ثم) للتراخي، لتدل على أن هؤلاء آمنوا، فتعلموا، فعملوا واستقاموا على دين الله عز وجل، فكلما تعلموا شيئاً عملوا به، فكانوا مستقيمين على طريق الله سبحانه، ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ))، فهذا هو التوحيد والإيمان والتصديق.
فالكفار يقولون: الله هو الخالق، وهو الرازق، والذي نعبده من الأصنام والأوثان إنما ذلك لتقربنا إلى هذا الخالق، سبحانه وتعالى عما يشركون وعن ما يقولون علواً كبيراً.
والمؤمنون قالوا: إن الذي خلقنا والذي هدانا هو الذي يستحق أن نعبده سبحانه، ((قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)) على طريق الله، عابدين ربهم سبحانه، ((فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))، والخوف دائماً يتعلق بالمستقبل، فقد يخاف المؤمنون أن يحصل لهم ما يكرهونه فالله يطمئنهم بأنهم سيدخلون الجنة خالدين فيها ولن يدخلوا النار، فالخوف دائماً يحصل مما سيأتي في المستقبل، والحزن يكون على شيء يحبه الإنسان قد فاته وضاع منه ولم يستطع الوصول إليه، فقال الله لهم: لا حزن على ماض ولا خوف من مستقبل، وطمأنهم الله عز وجل بأن حياتهم كلها في أمن وأمان، وفي جنة الخلود في دار السلام، ((فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) أي: ولا أي خوف.
والآية يقرؤها يعقوب هنا: (فلا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون)، ويقرؤها حمزة: (فلا خوفٌ عليهُم ولا هم يحزنون)، وباقي القراء يقرءونها: ((فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))، والمعنى: لا تخافوا على ما سيحصل لكم فإنه لن يكون إلا كل خير، ولا تحزنوا على شيء يفوتكم أبداً.
فالجنة دار من يدخلها ينعم ولا يبأس أبداً، ويحيا ولا يموت أبداً، وينعم في دار الخلود بما يعطيه الله عز وجل من فضله ومن كرمه.
وكما ذكر الحث على الإيمان والاستقامة في كتاب الله سبحانه وتعالى، فإنه قد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، فقد روى الإمام مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: (يا رسول الله! قل لي في الإسلامي قولاً لا أسأل عنه أحداً من بعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم)، وهذا ما تضمنته هذه الآية، أي وحِّد ربك سبحانه وتعالى واعمل واستقم على طريق الله فلا تشرك به شيئاً، ولا تعصه، واعمل بما أمرك به، واستقم على شريعته فلا تزغ ولا تنحرف عنها.
وعنه رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه الترمذي: قال: قلت: (يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به -أي: أتمسك به-، قال: قل: ربي الله ثم استقم قلت: يا رسول الله! ما أخوف ما تخاف علي؟) والمعنى: إذا آمنت وأسلمت وسرت في طريق الله عز وجل فما الذي تخافه علي أثناء وجودي في هذه الدنيا؟ قال: (فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال: هذا) يخاف عليه لسانه.
إن الإنسان المسلم إذا استقام على طريق الله سبحانه فليحذر من لسانه؛ فإنها هي التي تنحرف به عن طريق الله سبحانه وتعالى، فيقع في الشرك والمعاصي وفي آفات اللسان من غيبة ونميمة وكذب وبهتان وإفكٍ وافتراء.
وجاء أيضاً في حديث ثوبان عند ابن ماجة وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة، (ولن تحصوا)، أي: اعملوا الخير الذي يمكن أن تعملوه ولا تقعدوا عن عمل الخير لأجل أن تبحثوا عن كل خير، فالذي تطيقونه قوموا به، وكلما قمتم بعمل جاء عمل خير آخر، ولن تقدروا على كل الأعمال الصالحة مرة واحدة، ولكن بحسب ما تطيقونه.
قال: (واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة)، وهذا من رأفة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨]، عليه الصلاة والسلام، فأحكام الدين وتكاليفه كثيرة ولا يمكن أن يعمل الإنسان كل خير وليأخذ ما يأتيه من خير، وليعمل به، قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:٦٣]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، وأفضل العمل الذي تتمسك به فيدلك على غيره هو الصلاة.
قوله: (ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) أي: الذي يحافظ على الوضوء لكي يحافظ على الصلاة، ولذلك جاء في الحديث: (الطهور شطر الإيمان).
فإذا حافظ الإنسان على الوضوء والصلاة أزداد قرباً من الله، وكلما ازداد قرباً من الله دله الله عز وجل على الخير وفتح عليه أبوابه، وكان من المؤمنين الذين استقاموا على صراط الله، والذين {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:٢١ - ٢٢].